الأربعاء 16 تموز , 2025 02:21

هل تتحول حاملات الطائرات الاميركية إلى عبء استراتيجي؟

منذ الحرب العالمية الثانية، اعتُبرت حاملات الطائرات الركيزة الأساسية للهيمنة البحرية الأميركية، وجزءاً من العقيدة العسكرية التي منحت الولايات المتحدة القدرة على التدخل العسكري في أي نقطة على الخريطة. لكنها اليوم تواجه اختباراً حقيقياً، ليس فقط بفعل التهديدات الصاعدة، بل نتيجة تصدع داخلي في بنية الردع نفسها. في ظل تراجع الجاهزية، وتآكل القدرات الصناعية، وتعدد ساحات التوتر من البحر الأحمر إلى غرب المحيط الهادئ، تبدو هذه الترسانات العائمة أقرب إلى رموز مجيدة من ماضٍ لم يعد قادراً على خدمة متطلبات التطور الحاصل والأحداث المتسارعة.

خلال الأشهر الماضية، انتشرت حاملتا طائرات أميركيتان في منطقة القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، بالتوازي مع تصاعد الهجمات التي تنفذها صنعاء ضد السفن المرتبطة بكيان الاحتلال في البحر الأحمر وخليج عدن. لكن المفارقة اللافتة أن أيا من الحاملتين – "كارل فينسون" و"ثيودور روزفلت" – لم تقترب من ساحة المواجهة المباشرة، رغم إعلان الولايات المتحدة أن حرية الملاحة تمثل "أولوية أمن قومي". ما حدث فعلياً هو تمركز هذه السفن الضخمة في البحر العربي، بينما تُركت المهام في البحر الأحمر لمدمرتين فقط، تعملان بمرونة محدودة في مواجهة تكتيكات تتطلب توزيعاً أوسع وقدرات هجومية/دفاعية غير تقليدية.

هذه المفارقة لا تعكس فقط محدودية الجدوى العملياتية لحاملات الطائرات في الصراعات غير المتناظرة، بل تطرح سؤالاً أكثر عمقاً حول الفجوة بين العقيدة العسكرية الأميركية وواقع التهديدات المتغيرة. فالهجمات التي نفذتها القوات المسلحة اليمنية – باستخدام طائرات مسيّرة، صواريخ كروز، وقوارب سريعة – أثبتت أن قدرة الردع التقليدية لا تكفي لمنع طرف إقليمي يمتلك أدوات منخفضة الكلفة، لكن عالية التأثير، من شلّ الملاحة في واحد من أكثر الممرات البحرية أهمية في العالم.

إحدى أبرز النقاط التي كشفت عنها هذه الأزمة هي هشاشة الاستجابة الأميركية، ليس فقط من حيث بطء التدخل، بل في غياب أي محاولة جدية لمنع تكرار الهجمات. تم إغراق سفينتين في أقل من أسبوع،  دون أن تتمكن القوات الأميركية من التدخل في الوقت المناسب أو حتى إنقاذ الطواقم. في سياق كهذا، تصبح الكلفة السياسية لحاملات الطائرات أعلى من فائدتها العسكرية، خاصة عندما تُنشر لأغراض الردع الرمزي من دون أن يكون لها أثر فعلي على الأرض أو البحر.

لكن الإشكالية لا تتعلق بالشرق الأوسط وحده. في خلفية المشهد، يلوح التهديد الأهم: الصراع المحتمل مع الصين. بكين لا تمتلك فقط أكبر أسطول بحري من حيث العدد، بل تطوّر أيضاً ترسانة صاروخية قادرة نظرياً على تحييد أي حاملة طائرات أميركية تقترب من بحر الصين الجنوبي أو مضيق تايوان. الصواريخ الباليستية المضادة للسفن، مثل DF-21D وDF-26، صُممت خصيصاً لتهديد هذه القطع البحرية الضخمة، ما يفرض واقعاً جديداً يتمثل في أن الحاملات قد تتحول من أداة قوة إلى هدف مكشوف.

تتضاعف الأزمة مع معطيات الجاهزية الداخلية للبحرية الأميركية. وفقاً لتصريحات القائم بأعمال قائد العمليات البحرية الأدميرال جيمس كيلبي، فإن الجاهزية القتالية لحاملات الطائرات لا تتجاوز 68%، مع هدف وضع للوصول إلى 80% بحلول 2027. هذا التاريخ يتزامن مع التقديرات الأميركية لاحتمال لجوء الصين إلى حسم ملف تايوان عسكرياً. لكن بلوغ هذه الجاهزية يتطلب إعادة هيكلة كاملة للبنية الصناعية البحرية، وهي حالياً مثقلة بتراكم أعمال الصيانة، نقص الكوادر، وتأخير تسليم السفن الجديدة.

الضغوط التي فرضها الشرق الأوسط – من الحرب بين إسرائيل وإيران، إلى التهديدات البحرية من صنعاء – أجهدت القوة البحرية الأميركية، وأدت إلى تمديد مهام الحاملات لفترات قياسية (238 يوماً لـ"كارل فينسون"، و278 يوماً لـ"روزفلت")، وهو ما يُضعف من قدرة الأسطول على التناوب، ويستنزف الذخائر الاعتراضية المطلوبة لصراع محتمل في المحيط الهادئ.

في المقابل، تتبنى الصين عقيدة بحرية مختلفة، أقل اعتماداً على حاملات الطائرات وأكثر تركيزاً على الكم، والمرونة، وصواريخ مضادة للطائرات والمواقع البحرية. قدرتها على إنتاج السفن الحربية تتفوق عددياً وبزمن أسرع من الولايات المتحدة، ما يمنحها أفضلية في حال نشوب صراع طويل الأمد. في سيناريو كهذا، تبدو الولايات المتحدة وكأنها عالقة في نموذج الحرب الباردة، حيث تُعامَل الحاملة باعتبارها قاعدة جوية متنقلة، دون مراعاة تغير البيئة التكنولوجية والتهديدات السيبرانية والصاروخية.

لا يعني ذلك أن حاملات الطائرات فقدت كل جدواها، لكنها لم تعد تلعب الدور الحاسم الذي بُنيت عليه عقيدة السيطرة البحرية الأميركية. القدرة على الانتشار السريع والردع ما تزال موجودة، لكن عند الاختبار، كما في البحر الأحمر، يتضح محدودية هذه القدرة. التحديات المعاصرة تتطلب أدوات أصغر، أسرع، وأكثر قابلية للتكيّف: طائرات مسيّرة بحرية، غواصات هجومية، منظومات دفاع ساحلية، وشبكات إنذار مبكر متقدمة.

من منظور نقدي واقعي، يمكن القول إن التمسك بحاملات الطائرات كعماد أساسي للردع البحري يعكس عجزاً في مواكبة التحولات الاستراتيجية، وليس تعبيراً عن قوة مستدامة. وإذا لم تُراجع الولايات المتحدة عقيدتها البحرية بشكل جذري، فإن سيناريو الحرب القادمة – سواء في المحيط الهادئ أو غيره – قد يكشف أن واشنطن استثمرت أكثر مما ينبغي في أدوات عسكرية لم تعد متناسبة مع طبيعة الخصوم ولا مع شكل الحروب المقبلة.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور