الأربعاء 17 آب , 2022 05:07

قراءة في إدارة الجهاد الاسلامي لمعركة وحدة الساحات

سرايا القدس

قال السيد علي الخامنئي في رسالته الى الأمين العام لحركة الجهاد الاسلامي زياد النخالة ان الانجازات التي حققتها الحركة في معركة "وحدة الساحات"  تثبت أن "أي جزء من المقاومة يستطيع لوحده أن يمرغ أنف العدو بالتراب".

ما يعني أن الادراة العسكرية الصحيحة للمعركة أحبطت أهداف كيان الاحتلال من عدوانه على قطاع غزّة وقدّمت معادلة جديدة استراتيجية تنسحب على كلّ أطراف محور القدس ومفادها أنه في ظل "وحدة الساحات"، يستطيع أي تشكيل في محور المقاومة خوض الحرب منفرداً إذا فُرضت عليه، ويستطيع أن يحافظ على الزخم المقاوم، وأن يحقّق بالتالي الانتصار وحده.

يشرح العرض الآتي، أداء حركة الجهاد الإسلامي الذي ساهم بالتوصل الى هذه المعادلة.

قبل البدء بتحليل ما جرى، ينبغي التنويه إلى أن الساعات الخمس الأولى التي تلت العملية، أظهرت أن الهدف الرئيسي للعملية كان رأس الجسم العسكري لحركة الجهاد الاسلامي في غزة فقط، وذلك نتيجة للاحتفالات التي قامت بها سلطات الاحتلال بعدما تأكد لها تحييد قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس الشهيد تيسير الجعبري في العملية، وتبارز قادة الاحتلال على كيفية قطف هذا الانجاز المدّعى، خاصة بعدما أطلّ نفتالي بينيت الذي كان قد أعلن قبل أسبوعين من العملية اعتزاله السياسة، معلناً أنه كان من ضمن الفريق الذي قاد الاعداد والتخطيط للعملية. وأظهر توقيت المؤتمر الصحفي المشترك بين رئيس حكومة الاحتلال يائير لابيد ووزير الحرب بيني غانتس للحديث عن العملية الذي لم يتم، وجرى قطعه بعدما بدأت الصواريخ تنهمر على المنطقة المركزية في الجبهة الداخلية.

إن تزامن المؤتمر الصحفي مع بدء سرايا القدس مرحلة الرد الأولي على عملية استهداف قادتها ومجاهديها، يعتبر أول الدلائل على سوء التقدير الفاضح الذي وقعت فيه قيادة الاحتلال، والتي قدّرت أن سرايا القدس لن ترد أبداً أو على الأقل لن ترد سريعاً قبل ترميم الخلل في منظومة القيادة والسيطرة فيها.

وكعادة مسؤولي الاحتلال، عندما يظنون أنهم حققوا إنجازاً أمنياً أو عسكرياً، فإنهم يرخون لألسنتهم العنان، ويبدؤون بالثرثرة وكشف المستور الذي قد يحتوي على أسرار غاية في الخطورة. ومما أعلنه رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق "تامير هايمن"، الذي أعدّ تقديراً للعملية لمصلحة مركز الأبحاث الذي يترأسه وهو معهد دراسات الأمن القومي (INSS) كشف فيه: "تمكّنت إسرائيل من مفاجأة الجهاد الإسلامي - على الرغم من أنه كان في حالة تأهب قصوى - مما جعل الضربة الافتتاحية لعملية (مطلع الفجر) أو (فجر يوم جديد) إنجازًا عمليًا واستخباراتيًا نادرًا". وأضاف هايمن: "عملية (مطلع الفجر) التي أطلقت "أمس" بعد عمليات خداع وتلاعب ناجحة، أدّت إلى ضربة افتتاحية ناجحة للغاية، وإنجاز استخباراتي وعملياتي نادر. لكن الامر المختلف هذه المرة ان المفاجأة كانت بينما الطرف الاخر في حالة تأهب واستعداد، على الرغم من ذلك، استطاعت إسرائيل خلق مفاجأة في خضمّ حالة التوتر والتظاهر بالعجز وقلة الحيلة. وأدعى هايمن أنه: "يمكن الآن الكشف عن أن الجيش الإسرائيلي والشاباك وشعبة الاستخبارات العسكرية كانوا ينتظرون المعلومات الاستخبارية التي تسمح لهم بتوجيه ضربة افتتاحية مؤلمة ودقيقة للجهاد الاسلامي".

وختم هايمن تقديره قائلاً: "حتى لو بثمن تصعيد محتمل، كان تيسير الجعبري من أهم وأكبر قادة الجهاد في قطاع غزة، وليس له بديل فوري يتمتع بقدرات قيادية واضحة. بالإضافة إلى وجود "وزير دفاع" الجهاد أكرم العجوري ورئيس الجهاد زياد نخلة في إيران (وقت العملية) وهو الامر الذي شكّل حدثًا غير مسبوق، مما خلق أزمة في سلسلة القيادة والتحكم في المنظمة. وكان هذا الوقت المناسب لتوجيه ضربة لها".

المرحلة الافتتاحية: تكرار سوء التقدير الإسرائيلي

من حيث الشكل، جاءت الضربة الافتتاحية بصورة "عملية موضعية" ضد القائد الشهيد الجعبري، اعتمدت كهدف أولي بأسلوب القتل المستهدف المرتكز على استخبارات محدثة، وفعلت كهدف ثانوي بنكاً متواضعاً للأهداف يبدو أنه جزء من بنك أهداف أكبر بدأ اعداده من قبل جهاز الأمان الصهيوني بعناية، بعد الانتهاء معركة سيف القدس الصيف الماضي والتي حققت فيها المقاومة الفلسطينية إنجازاً كبيراً على مستوى فرض الردع على العدو.

الدراسة الفنية الأولية لنوعية وطبيعة الأهداف المنتخبة للمرحلة الافتتاحية لهذه العملية، يظهر أنه باستثناء عملية القتل المستهدف للجعبري وعدد من رفاقه في برج سكني شمال قطاع غزة، فإن معظم الأهداف الأخرى التي جرى استهدافها، يمكن وصفها بالأهداف السهلة والواضحة والمكشوفة، خاصة مجموعة المراصد والمقرات العلنية التابعة لسرايا القدس على طول جغرافيا قطاع غزة، المكشوفة لكل أنواع ومنظومات الاستطلاع العسكري الإسرائيلية.

إذاً، فالاستثناء الوحيد الذي حققه عدوان الاحتلال، كانت في ظروف تداخلت فيها:

_ التكنولوجيا العسكرية المستخدمة في العملية.

_ طبيعة البناء الذي استهدف فيه هذا القائد الجهادي الكبير وهو مبنى سكنياً بامتياز.

_ ترجيح وجود تواطؤ أمني مصري، الذي يبدو أنه قدّم تقديراً في الوقت الحقيقي للوضعية التعبوية (العملياتية) للهدف المنشود، (الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي).

هكذا استعادت سرايا القدس المبادرة

مع بدء تدحرج العدوان، وانكشاف سوء التقدير الاسرائيلي بعد الرد الأولي لسرايا القدس، التي أطلقت نمطاً جديداً للرد لم يكن يتوقعه مخططو العملية الإسرائيلية، وتمثّل بالتالي:

_ إدارة نار ممتازة، والتركيز على المستعمرات والمدن المحتلة في الجنوب والوسط، بطاقة ردّ يمكن التحكم بكثافتها وحجم القوة التدميرية لصواريخها في أي وقت، ولا تستلزم استنزافاً للقدرة الصاروخية للمقاومة.

_ جعل ضرب العمق الإسرائيلي هدفاً ثانوياً يمكن تحقيقه ساعة تشاء المقاومة، وليس هدفاً أولياً كما حصل في معركة سيف القدس.

كل ذلك اعتمد على مبادئ حرب مناسبة أهمها، (الاقتصاد بالقوى + وحدة القيادة + الخداع)، حيث أنّ معظم المعلومات، كانت تفيد بأن العدو استعد لأيام قتالية، يستنزف خلالها سرايا القدس مخزونها الصاروخي بعيد المدى خلال أقل من أسبوع. وإن أهمّ استعداداته على مستوى الجبهة الداخلية، كانت في المنطقة المركزية أي "تل أبيب" و"غوش دان" والقدس المحتلة ومحيطهما، وليس في الجنوب الذي تلقّى معظم الضربات، فيما كانت الاجراءات التأمينية التي فرضها الاحتلال قبل 5 أيام من العملية على سكان المستعمرات والمدن الجنوبية المحتلة، هي إجراءات وقائية ولكنها انتخابية، تسمح له برشوة انتخابية غير مباشرة من خلال صرف مساعدات سخية لسكان الجنوب، ذوي الميول الانتخابية اليمينية.

الاحتلال في فخ الاستنزاف

عمل الاحتلال خلال العملية على الالتزام بقواعد اشتباك ثلاث:

1/ الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، وتحييد الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في غزة، وعلى رأسهم كتائب القسام.

2/ المس بأكبر قدر ممكن من موارد سرايا القدس البشرية والمادية، وخاصة القادة العسكريين، من الصف الأول.

3/ إنهاء العملية في أقل من سبعة أيام، وتحاشي الدخول في معركة طويلة.

في المقابل، فإن المقاومة فرضت على الاحتلال الدخول في منازلة طويلة ومكلفة على مستوى كمية الأذى التي سيتعرض لها في "عقر داره الانتخابي"، كما أنها احتفظت بعد انتهاء المواجهات بفاتورة رد كبيرة، كانت تزداد تعاظماً كلما أوغل العدو في عمليات تحييد قادتها، وباتت زمام المبادرة في الرد بيديها، حيث يمكنها الرد كما تشاء وساعة وأين تشاء، وذلك للأسباب التالية:

_ لم يستطع الاحتلال فرض طريقة وكيفية الرد على المقاومة.

_ لم يستطع كشف أوراق المقاومة التسليحية الاستراتيجية، وبقيت عمليات الرد حتى آخر لحظة من المعركة، ترتكز على صواريخ الغراد والكاتيوشا وقذائف الهاون.

_ لم يعد بإمكان العدو تخمين كيفية وطبيعة وجغرافية رد المقاومة عليه، بعدما استنفذ جميع مناوراته وأساليب خداعه.

_ أدخل الاحتلال نفسه مجدداً في معضلة حرق بنك الأهداف، وبات عليه في خضم المعركة بناء بنك أهداف جديد.

_ لم يستطع تحييد القيادة العسكرية للمقاومة في الضفة الغربية، حيث أن معظم الذين اعتقلهم قادة ذوي طبيعة عمل ومسؤوليات مدنية.

خيارات المقاومة

مع استمرار الاحتلال في تطبيق استراتيجية خاطئة، باتت هناك خيارات عديدة بيد المقاومة لإيلام وتحقيق الردع مجدداً، ويمكننا تلخيص تلك الخيارات بالتالي:

1/ الرد باغتيال ضباط وقادة إسرائيليين على مستوى عالٍ

2/ خطف جنود وقادة من منطقة غلاف غزة، حيث يتجحفل المئات من أفراد جيش الاحتلال لتحقيق خدمات المدفعية والعمل الاداري واللوجستي، لاستيعاب آلاف الجنود في حال تطورت العملية إلى ما يشبه منازلة برية.

3/ العودة إلى اعتماد تكتيك الأسود المنفردة في العمق الجبهة الداخلية.

4/ إعادة الاعتبار للعمليات الاستشهادية في أي مكان بالداخل المحتل.

5/ قنص جنود وضباط في محيط غلاف غزة وفي الضفة والداخل المحتل عام 1948.

6/ استهداف آليات ودبابات العدو بأسلحة مضادة مناسبة كالكورنيت وغيرها مما أخفته المقاومة.

7/ اتخاذ قرار البدء بحرب عصابات مسلحة ضد العدو في الضفة الغربية.

8/ استخدام المخزون الصاروخي الثقيل وطويل المدى لجعل الحياة في المنطقة المركزية لا تطاق.

9/ استخدام كمية غير محدودة من المسيرات لاستهداف مراكز حساسة عسكرياً، قد تعطّل مرافق عسكرية مهمة لفترات طويلة.

10/ استهداف وتدمير منصات استخراج الغاز والنفط البحرية.

خلاصة واستنتاج

غامر الاحتلال بتصعيده في العدوان بالدخول في وضع عسكري وسياسي لا مخرج منه (NON EXIT STRATEGIE)، حيث ظهر أن حركة الجهاد الاسلامي التي عايشت خلال السنوات العشرين الماضية ظروفاً مماثلة، باتت في حصانة من اي ضربات مهما بلغت قساوتها، حيث أن الكادر العسكري لسرايا القدس قد راكم منذ العام 2000 خبرات ومعارف وقدرات تخطيط، ويستطيع التعايش والعمل تحت أشد الظروف العسكرية قساوة، مما يعني أن العدو انجرف بدون إرادة إلى وضع غير ملائم له استراتيجياً، مدفوعاً بدافع الغرور بالإنجازات التي حققها في المرحلة الافتتاحية.

الخلاصة، أن جميع تجارب الاحتلال مع المقاومة في لبنان وفلسطين أثبتت:

أنه يستطيع افتتاح الحرب باغتيال مستهدف، إلا أنه لا يستطيع أن ينهيها بعد اللحظة التي تبدأ فيها المقاومة بالرد. وعليه، وبعدما وافق الاحتلال على وقف اطلاق النار، أصبحنا في وضعية مشابهة لعدة وضعيات سابقة كانت تتكثف فيها عملية النزال المتبادل بين المقاومة والمحتل المغامر، إلى أن يصل الاحتلال إلى حالة استعصاء مشفوعة بانهيار كبير للمعنويات في الجبهة الداخلية، وتراجع عن السقوف العالية للشروط، التي طرحها في بداية المعركة، إلى سقوف متدنية، التي لا تستطيع أن تؤمّنها له إلا الادارة الامريكية أو الوسيط المصري.

في الختام، فإن النتيجة التي خلصت إليها القراءة الأولية للدروس المستفادة من  ساعات قتال، في عملية "وحدة الساحات"، هي التالية: إن مغامرة أو محاولة الاحتلال الاستفراد بسرايا القدس للإطباق عليها، بدا فشله من اليوم الأول، وظهر من خلال الادارة الجيدة ومتعددة الابعاد للمعركة، أن حركة الجهاد الاسلامي حققت في معركة الوعي وإرادة التحدي والقتال، نصراً غير مسبوق على الاحتلال.


المصدر: مركز دراسات غرب آسيا




روزنامة المحور