الأربعاء 06 نيسان , 2022 02:22

ما هو تأثير المتغيرات السياسية التركية على الساحة السورية؟

الرئيس بشار الأسد والرئيس رجب طيب أردوغان

يكاد يكون القول بالبراغماتية التركية السياسية قولًا مستهلَكًا، لكن الأمر اللافت هو المدى الذي يمكن فيه لمستوى التنازلات أن يصل إليه، على حساب المبادئ والثوابت تحت عنوان "المصلحة". منذ مدة غير بعيدة، عاد التلوّن "الإردوغاني" للتماهي مع الكيان المؤقّت في سياق التعاون في مجال الغاز الطبيعي، وبدأ سيل التنازلات التركية حتى وصل إلى درجة وصف عمليات المقاومة الفدائية الفلسطينية بـ "الإرهابية". فما هي اتجاهات التركي في ظل الأوضاع القائمة؟ وأي تأثير لها على الساحة السورية؟

حركة أنقرة في مشهدية المنطقة

بداية، لا يمكن فهم التحرّك التركي بعيدًا عن الانكفاء الأمريكي من المنطقة، والمحتمل رجحان كفته، مع الحاجة للتركيز على الملف الأوكراني وإيلاء الأهمية لأوروبا الشرقية. في الوقت الذي تحتاج فيه واشنطن إلى تركيا كلاعب إقليمي وكيل، فإن أنقرة تندفع للحاضنة الأميركية مجددًا لعوامل عدة في طليعتها: الانهيار المالي، الانتخابات المقبلة، والمحفزات السلطوية والمحاصصة في ظل الفراغ الإقليمي. وقد تلقّفت تركيا المؤشرات جيدًا، فاستوعبت وزارة الخارجية التركية عودة الحركة الدبلوماسية الأميركية، وبدأت العلاقة التركية الإسرائيلية تشهد بوادر انتعاش في ظل زيارات رسمية على مختلف المستويات، كان أبرزها لقاء الرئيس التركي "رجب طيب إردوغان" مع رئيس الكيان المؤقّت "يتسحاق هرتسوغ".

وقد ناقشت تركيا موضوع تعزيز التعاون في مجال الغاز بينها وبين الكيان المؤقّت مع المسؤولين الأمريكيين، وطلبت منهم المساعدة في الترويج لبناء خط أنابيب غاز بين الكيان وأوروبا يمرّ عبر تركيا، كبديل عن خط الغاز الروسي. وشغل ملف التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط المحادثات، بين الرئيسين الإسرائيلي والتركي التي تطرّقت أيضًا إلى "تشكيل نظام لمنع الأزمات أو لمواجهة أزمات قد تنشأ"، عبر إنشاء آلية لإدارة النزاعات وصياغة حلول للمشكلات، ومنع تدهور الوضع إلى أزمة دبلوماسية عندما تنشأ الخلافات بين البلدين، الموضوع الذي وصفه "هرتسوغ" بالقول: "تم وضع أساس لتطوير العلاقات وتقدمها باتجاه إيجابي مع تركيا".

مستجدات الحركة التركية ومؤشراتها

إنّ العلاقات الإيجابية في الحسابات الإسرائيلية، هي التي تحمي أمن إسرائيل وتصبّ في مصلحة الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما لم يخرج "هرتسوغ" عن إطاره. فقد طلب من "إردوغان" خلال اجتماعهما في قصره في أنقره "العمل ضد نشطاء حركة حماس على الأراضي التركية"، وفق المصادر العبرية.

في المقابل، أكّد الرئيس التركي على الهدف المشترك، في إعادة إحياء الحوار السياسي "على أساس المصالح المشتركة واحترام الحساسيات المتبادلة". وهنا يكمن بيت القصيد، إذ إنّ سلة المشتركات والتبادلات يمكن رصد اتجاهها في المتغيرات التالية في الإجراءات التركية، علمًا أنّ الأخيرة منها حتى الآن، هي النقطة الأخيرة:

1)عودة المباحثات المتقدمة مع شركة "رولز رويس" البريطانية من أجل أن تتولى الأخيرة بشكل مشترك مع خبراء أتراك، صناعة محركات الطائرة المقاتلة الشبحية من الجيل الخامس، والتي تصنعها أنقرة حاليا تحت اسم "تي إف إكس"، وذلك بعد تجاوز مشكلات عالقة بين الجانبين.

2)إبلاغ الولايات المتحدة وغيرها من دول الناتو، بإغلاق ملف منظومة الدفاع الجوي "إس 400" الروسية التي اشترتها تركيا، بالنسبة لأنقرة، والتزلّف للناتو لبيعها منظومات دفاع متطورة وبطاريات باتريوت، "إن كان الحلف يرغب في ذلك". مع الأخذ بعين الاعتبار أن تركيا حليفة الناتو، و"لديها ثاني أكبر جيش في الناتو، وأنه من الخطأ أن يفرض الحلفاء عقوبات على بعضهم، وأن حرب أوكرانيا أظهرت هذا الأمر بوضوح".

3)موافقة وزارة العدل التركية على طلب تقدّم به الادعاء، لنقل قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي إلى السعودية، كما نقلت رويترز.

4)إدانة "إردوغان" عمليات المقاومة الفلسطينية الفردية الأخيرة، التي أسقطت "قمم العار"، فكان أن وصف العمليات بـ "الإرهابية"، وقدّم التعزية لنظيره الإسرائيلي بمن وصفهم بـ"الضحايا"، وفق ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرنوت".

5)نقل أنقرة رسائل خاصة إلى دمشق قبل زيارة الأسد لدولة الإمارات، حول إمكانية فتح فصول جديدة وفرصة جديدة، في العلاقات التركية السورية. وحاليًّا هناك مناقشة محاولات من قبل الحكومة التركية، للشروع في الحوار مع الإدارة السورية حول الحفاظ على البنية الأحادية، الحفاظ على وحدة الوطن، وضمان أمن المهاجرين العائدين.

تداعيات مؤشرات التغيّر

 ترجّح هذه المؤشرات مجتمعة إلى وجود صفقة ثلاثية: تركية أميركية إسرائيلية، تستثمر رغبة أنقرة في توسعة دورها الإقليمي والدولي، واللعب ما بين الحبال. ويظهر أنّها في طور تقديم تنازلات عدة، في سياق تسوية أو مقايضة معينة. وتدأب تركيا على الحفاظ على دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، مثلما حاولت مؤخرًا بين الطرفين الروسي والأوكراني، ويرجّح أنّها تحاول التوازن مع دور الإمارات في المنطقة، بالاستفادة من المرحلة الجديدة للعلاقات بين البلدين، خاصة وأن تركيا لا تسعى إلى تطبيع العلاقات مع الدولة السورية فقط، وإنما أيضًا مع أرمينيا و"إسرائيل". وقد تكون هناك حاجة إلى مزيد من الوقت مع مصر، وفقاً لما أوردته صحيفة "حرييت" التركية. ويضيف المقال أن تركيا تحاول استثمار سياستها الحالية في التوازن، والمساهمة في إنهاء العملية العسكرية، وتركيز روسيا فيها وانشغالها بكل من ردود أفعال أوكرانيا والعالم، فضلًا عن مشكلاتها الداخلية، وحاجة الدولة السورية إلى اتخاذ مبادرات جديدة، وإيجاد دعم جديد. وعليه، تتحرّك أنقرة بعيدًا عن الخسارة في هذه المرحلة الحساسة ما بين الروسي والأميركي من جهة، وما بين مختلف اللاعبين الإقليميين الجدد من جهة أخرى، لا سيما في ظل التحالفات الثنائية الناشئة والتوافقات البينية المخترقة لمختلف المحاور.

في تداعيات العملية العسكرية الروسية في الساحة السورية، يحتمل أغلبية المحللين والخبراء أن يشهد الشمال السوري ارتدادات العملية على اختلاف نسب الاحتمال ومدى الخطورة، لكن يرجح خيار تصعيد توتّر البؤر الأمنية غير المتفلّت. وفي سياق احتمالية تحريك التركي لجماعات المعارضة للضغط على الروسي، يبرز اتجاهان: الأول يتبنّى انشغال روسيا ويراهن على تدهور صورتها وعجزها بعد حرب أوكرانيا، وتاليًّا يرجّح جهوزية فصائل المعارضة لاختبار مدى استعداد الروس لحماية اتفاق وقف إطلاق النار الساري حتى اللحظة في شمال غربي سوريا. وفي ذلك، تقول دراسة معهد" أبحاث السلام": "إن إعلان المعارضة السورية دعم أوكرانيا "تكتيك مجاني" لتحدي النفوذ الروسي الثقيل في سوريا، ولكن بعض التحركات "قد لا تكون بعيدة"، كما أن تركيا قد تسعى إلى الاستفادة من "الموقف الضعيف" للنظام".

أما الاتجاه الثاني فيدعم القول بقوة النفوذ الروسي في سوريا، وتنامي مكانتها السياسية والعسكرية، إلى درجة يخيب معها المراهنين على تخلّي موسكو عن مساعدة الدولة السورية والحفاظ على نفوذها، لا سيما مع ما تمتلكه من قواعد عسكرية وتفوق عسكري على الجماعات المعارضة.

وتشير مجموعة متغيرات ميدانية إلى منطقية خيار التصعيد وأرجحيته. مع مطلع الشهر الماضي، قامت مجموعة أمنية واستخباراتية "أوكرانية تركية" بزيارة الشمال السوري، بذريعة بحث مسألة تجنيد مسلحين في صفوف الدفاع الإقليمي لأوكرانيا، والتقت "حركة ثائرون" المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري المعارض المدعوم تركيًّا، والقائمين على المجموعات المسلحة مثل فرقة "سلطان مراد"، وجيش "المهاجرين والأنصار"، بحسب ما نقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية. وللمصادفة، بدأت مناطق خفض التصعيد، شمال غربي سوريا، تشهد في اليوم التالي تصعيدًا عسكريًّا جدّدت فيه "غرفة عمليات الفتح المبين" اعتداءاتها على محاور مختلفة للقوات الحكومية في ريف حلب الغربي، وجنوب إدلب وشرقها، وجبهات ريف إدلب الجنوبي واللاذقية الشمالي. كما نفذت "الجبهة الوطنية للتحرير" من الجماعات الإرهابية عملية تسلل شمال غربيّ حماة، على قاعدة للقوات التابعة للدولة السورية، كسرت فيها قواعد الاشتباك القائمة.

وينسجم مع هذه المؤشرات، لقاء وزير الدفاع الأميركي "لويد أوستن" بنظيره التركي "خلوصي آكار"، في الـ 21 من شهر آذار /مارس الماضي. في حين قد يدفع باتجاه الضغط العسكري، فشل محاولة أنقرة الضغط السياسي عبر الائتلاف المعارض السوري، في طرحه استلام مقعد دمشق في الأمم المتحدة، في ظل التطبيع العربي مع الحكومة السورية. أما أكثر التحركات التركية مدعاة للقول بتخريب الاستقرار السوري، وتحريك بؤر التوترات الأمنية لصالح الأمريكي والإسرائيلي، فهو التصعيد التركي الأخير، في الـ 3 من شهر نيسان /أبريل الحالي، إذ استهدفت القوات التركية والفصائل التابعة لها، مناطق ريف الحسكة الشمالي، شمال شرقي سوريا، وطالت عشرات القذائف محيط القاعدة الروسية الموجودة في محطة المباقر شمالي تل تمر.

بهذا السياق، يظهر الاتجاه الأول أقوى احتمالًا، من اتجاه التسليم بعودة النفوذ السوري تحت عباءة النفوذ الروسي، بعد انتهاء الحرب لمصلحة موسكو. بيد أنّ البراغماتية التركية الحاكمة في ضرورة مراعاة كل الأطراف والتوازن في الخطوات، ينشأ معها اتجاه آخر ما بين الاتجاهين يأخذ بعين الاعتبار الاحتمالات كافة، بحيث يجعل من انشغال الروسي غطاءً لتصعيد عسكري موضعي أو نقطوي، يحافظ على عدم الاحتكاك المباشر ويتجنّب رفع التكلفة، لكن بما يربك النظام السوري والقوات الحليفة له، ويستثمر في المسار التراكمي للضغط مع استمرار العملية العسكرية الروسية.

خلاصة

 إنّ تحليل البراغماتية التركية حتى اللحظة لا يحمل معه نقاط تحوّل جذرية تخرج بإجراءات أنقرة عما هو أشبه بالمناورة ضمن إطار تبادل الرسائل وتحقيق المكاسب الممكنة من جميع الأطراف. قد تكون الساحة السورية معرضة للضغط مجددًا، لكنه ضغط صوري معروف الأهداف ومحدود؛ يعاني من الهشاشة على مستوى الأدوات والسياسات، ولديه الكثير من الأزمات والمشكلات على صعيد الهيكلية العسكرية بين عناصره والتماسك السياسي بين مختلف أطرافه، وتعافي النظام السوري التصاعدي. بيد أنّ المعطيات أعلاه يتخوّف معها أن يجدّد الطموح "الإردوغاني" المناورة في القضية الفلسطينية التي يفترض أن تكون وفقًا لموقعها الطبيعي معيار العلاقات السياسية الخارجية في اصطفاف محاور المنطقة. وعليه، قد لا تُسقط المناورة رغبات تزخيم العلاقات الثنائية على حساب القضية الفلسطينية وحساب حرية شعبها ونضاله، بيد أنّ السير بين الخطوات بات مكشوفًا للرأي العام الذي بات يتحلّى بأعلى درجات الوعي السياسي، ويعلم أنّ من يدّعي نصرة القضية لا يمكن أن يكون محايدًا، وأنّ هؤلاء "الأسود المنفردة" إنما دفعوا دماءهم ثمن كرامة تأبى أن تطلب ما هو حق لها بالخنوع والانبطاح. وتاليًّا، قد تكون المنطقة على موعد مع اهتزازات تركية تكشفها المرحلة القادمة لعلّ الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى الكيان المؤقت مطلع الشهر الحالي، تحدث فيها أمرًا.


المصدر: مركز دراسات غرب آسيا

الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور