في المشهد الدولي الراهن، عاد ملف تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" الأميركية ليكشف حدود القدرة الأميركية على إدارة الصراع مع روسيا دون الانزلاق إلى مستوى الاشتباك المباشر. فخلال الأسابيع الماضية، بدا الرئيس الأميركي دونالد ترامب منفتحاً على فكرة نقل هذا النوع من الصواريخ إلى كييف للضغط على موسكو، قبل أن يتراجع تحت وطأة اعتبارات استراتيجية تتجاوز الحسابات التكتيكية الظرفية. هذا التراجع يمكن قراءته في سياق معادلات الردع، ومخاطر التصعيد، وتوازن القوى بين الشرق والغرب.
لا تكمن خطورة توماهوك في مداها فقط، بل في دلالاتها السياسية والعسكرية. فهذه الصواريخ ذات القدرة على ضرب أهداف في العمق الروسي لمسافة تتجاوز 1600 كيلومتر، لا تُعامل كسلاح إضافي ضمن ترسانة الدعم الغربي لكييف، بل كثغرة استراتيجية قد تُفهم في موسكو باعتبارها إدخالاً مباشراً للولايات المتحدة في ساحة القتال. أي خطوة من هذا النوع تُفقد واشنطن ميزة "الإنكار الاستراتيجي"، التي سمحت لها حتى الآن بتقديم الدعم العسكري والاستخباراتي لأوكرانيا دون أن تتحول طرفاً صريحاً في الحرب.
بالاضافة إلى ذلك فإن تشغيل هذه الصواريخ ليس ممكناً دون إشراف أميركي مباشر. فمنظومات الملاحة، وتحديد الإحداثيات، والاستطلاع الإلكتروني المرتبط بالأقمار الصناعية، كلها عناصر لا تمتلك أوكرانيا القدرة على إدارتها منفردة. بمعنى أدق، إطلاق توماهوك من الأراضي الأوكرانية يُترجم عملياً إلى مشاركة استخباراتية ولوجستية أميركية على مستوى القرار والتنفيذ. وهذا ما يجعل المسألة بالنسبة للكرملين تجاوزاً للخط الأحمر الذي أعلنته موسكو منذ العام الأول للحرب.
في المقابل، يبدو ترامب واعياً لخطورة الإشارات التي قد يبعثها أي قرار من هذا النوع لحلف شمال الأطلسي. فالناتو نفسه لا يسعى إلى اختبار قدرة روسيا على الرد. ومن غير المرجح أن توافق العواصم الأوروبية على تصعيد قد يضعها على خط النار، خصوصاً في ظل انقسام داخلي حول جدوى استمرار الحرب وتمددها. كما أن موسكو لم تُخفِ استعدادها للرد على أي استهداف عميق لأراضيها من خلال ضرب قواعد أو مخازن غربية في دول مجاورة، وهو ما يعني فتح جبهة مواجهة تتجاوز التوازن الحالي.
التراجع الأميركي لا ينفصل أيضاً عن محدودية الإمكانات الصناعية والعسكرية. فالمخزون الأميركي من توماهوك محدود، والإنتاج السنوي يتراوح بين 50 و70 صاروخاً فقط، ما يجعل أي نقل مباشر إلى ساحة حرب مفتوحة مخاطرة تمس جاهزية واشنطن في جبهات أخرى، خصوصاً ضمن التنافس مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ. بالنسبة لصانع القرار الأميركي، لا يمكن التفريط بهذه الصواريخ في لحظة تتغير فيها خرائط الأمن الدولي.
يدرك ترامب أن أي خطوة تصعيدية تفقده فرصة الاحتفاظ بقنوات التواصل مع موسكو. فمقاربته للحرب الأوكرانية تختلف عن مقاربة الإدارات السابقة: فهو لا يريد إدارة حرب استنزاف طويلة، بل تسوية تُحفظ من خلالها مصالح واشنطن دون إغلاق باب التفاهم مع روسيا. ومن هنا جاء خطابه المتكرر عن ضرورة إعلان "نصر متبادل" وترك الباقي للتاريخ، في محاولة لصياغة مخرج تفاوضي يحفظ ماء وجه الطرفين.
حتى الآن، لم تنجح محاولات الدفع نحو طاولة مفاوضات جدية، لكن واشنطن لا تبدو مستعدة لمنح كييف وسائل هجومية قد تُفشل أي فرصة تفاوضية مستقبلية. فالتصعيد العسكري العميق يقيّد السياسة، ويضع الولايات المتحدة أمام معادلة صفرية مع روسيا. ولأن الحرب خرجت من مسار الصدمة الأولي إلى مسار الاستنزاف الطويل، بات ضبط إيقاع الدعم العسكري جزءاً من إدارة المدى البعيد للصراع، لا ورقة ضغط آنية.
على خط موازٍ، تنظر موسكو إلى توماهوك بوصفه سلاحاً كاسراً للتوازن، لكنها تدرك أيضاً أن وصوله إلى أوكرانيا سيعجّل بتوسيع الحرب إلى مدارات أخرى. ولذا تعتمد روسيا استراتيجية الردع عبر التهديد بالتصعيد الجغرافي، وربط أي خطوة أميركية بسيناريو رد يشمل قواعد الناتو، وليس كييف وحدها. أما واشنطن فتوازن بين الرغبة في إبقاء الضغط قائماً على موسكو، وبين الخشية من دفع بوتين إلى خيارات غير محسوبة.
هكذا يبدو امتناع واشنطن، وتحديداً ترامب، عن تزويد أوكرانيا بتوماهوك انعكاساً لحدود القوة الأميركية ذاتها، لا مجرد قرار تكتيكي مؤقت. فواشنطن تريد إدارة الحرب، لا الانخراط المباشر فيها. وتحاول الحفاظ على مستوى من الدعم يمنع الانهيار العسكري لكييف، دون أن يسمح لها بتغيير قواعد الاشتباك جذرياً. وبهذا المعنى، يظل ملف توماهوك اختباراً لمعادلة الردع المتبادل، أكثر منه نقاشاً تقنياً حول منظومة تسليح.
يظهر أن التراجع عن الخطوة لا ينم عن ضعف بقدر ما يعكس وعياً بأن أي انفلات في وتيرة التصعيد سيُعيد رسم خريطة الأمن في أوروبا ويقود إلى صدام دولي مفتوح. وفي وقت تبدو فيه موازين القوى العالمية قيد التشكل، يدرك اللاعبون الأساسيون أن التحكم في حدود النار أهم من توسيع مدياتها.
الكاتب: غرفة التحرير