الاستطلاع الأمريكي الجوي غير المأهول فوق لبنان يمثّل أحد أبرز وجوه الانتهاك المستمر للسيادة الوطنية، ويعكس حجم الشراكة العملياتية والاستخباراتية بين الولايات المتحدة والعدو الصهيوني وحلفائهما. فمنذ كانون الأول/ديسمبر 2023 وحتى أواخر أيلول/سبتمبر 2025، نفذت طائرات MQ-9 Reaper الأمريكية عشرات الطلعات الجوية فوق الأراضي اللبنانية، وصلت في بعض الأشهر إلى وتيرة شبه يومية، كما في أيار/مايو 2025. هذه الطلعات شملت الجنوب والبقاع وبيروت الكبرى، وترافقت مع مهام معقدة تتجاوز مجرد المراقبة الروتينية إلى أهداف استراتيجية ذات طابع استخباري وعسكري متقدم.
المفارقة أن هذه الأنشطة تجري في غياب أي تنسيق مع السلطات اللبنانية المدنية أو العسكرية، وهو ما أدى إلى اقتراب لبنان من ثلاث كوارث جوية خلال عشرة أشهر فقط نتيجة تداخل مسارات هذه الطائرات مع حركة الطيران المدني. وعلى خلاف التبريرات الفرنسية التي تزعم عمل طائراتها في إطار القرار 1701، فإن الولايات المتحدة تتصرف بشكل أحادي، مستندة إلى مبررات أمنية مرتبطة بما بعد طوفان الأقصى عام 2023.
طبيعة المهام الأمريكية فوق لبنان تكشف أن الأمر يتجاوز جمع المعلومات، إذ تسعى واشنطن إلى فرض سيطرة معلوماتية شاملة على الميدان الممتد من لبنان إلى فلسطين وسوريا. فهذه الطائرات تعمل كـ "عيون وآذان" متقدمة عبر المراقبة البصرية والحرارية واعتراض الإشارات الإلكترونية، وفي الوقت نفسه كـ "قبضة ضاربة" جاهزة لاستخدام القوة عند الحاجة.
أول أوجه النشاط يتمثل في الاستخبارات والمراقبة المستمرة. سجلات التحليق تشير إلى رحلات تدوم حتى 18 ساعة يوميًا، بنمط متكرر ومنهجي، يتيح بناء صورة استخباراتية دقيقة ومحدثة باستمرار عن كل ما يجري في لبنان. وتُظهر المسارات الثابتة – بدءًا من الشمال صباحًا ثم الجنوب حتى المساء – أن الهدف هو مسح شامل لمناطق ذات أهمية استراتيجية، من الساحل إلى الحدود السورية والجنوبية.
ثانيًا، يبرز تركيز واضح على مراقبة الفاعلين الإقليميين والتوترات الحدودية. الجنوب اللبناني والليطاني مثلًا يحظيان بمتابعة دقيقة ترصد تحركات المقاومة وبنيتها التحتية، فيما تركز الرحلات فوق الهرمل والحدود الشرقية على منع أي عمليات تهريب أسلحة أو أفراد بين سوريا ولبنان.
ثالثًا، تتجاوز المهام التصوير إلى التنصت الإلكتروني. فطائرات MQ-9 مزودة بمعدات متقدمة لاعتراض الاتصالات وتشويشها، وقد شوهدت مزودة بمنصات حرب إلكترونية تتيح لها فك تشفير الاتصالات أو التشويش على الرادارات.
رابعًا، تكمن خطورة أكبر في قابلية هذه الطائرات لتنفيذ عمليات "قتل مستهدف". صور عديدة وثقت تحليقها مسلحة بصواريخ "هيلفاير 3" فوق بيروت الجنوبية والنبطية، ما يعني أنها لم تكن مجرد منصات مراقبة بل أدوات هجومية قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف عالية القيمة دون سابق إنذار.
خامسًا، يرتبط نشاط هذه الطائرات بالتنسيق مع الحلفاء. فقد لوحظ تحليقها جنبًا إلى جنب مع طائرات MQ-9 فرنسية ورموز نداء مميزة، ما يعكس تقاسمًا للأدوار في جمع المعلومات. كذلك، ارتبط وجودها بطلعات طائرات عمليات خاصة أمريكية مثل MC-130J، بما يوحي بتوفير غطاء استخباراتي لعمليات سرية.
استغلال خصائص الطائرة التقنية يبرز بوضوح. فهي قادرة على التحليق لأكثر من 24 ساعة متواصلة، كما حدث في أيار/مايو 2025 حين سجلت 27 طلعة خلال 31 يومًا، إحداها استمرت 18 ساعة متواصلة. قدرات التحليق الطويلة والارتفاعات الشاهقة (22 إلى 28 ألف قدم) تسمح لها بجمع معلومات مستمرة مع قدر من التخفي يصعّب رصدها من الأرض.
أما على صعيد التحالفات، فيتضح تكامل واسع بين الاستطلاع الأمريكي والصهيوني والفرنسي. النموذج الأول يقوم على تقسيم الأدوار: فالولايات المتحدة تركز على الصورة الاستراتيجية الكبرى مثل مراقبة الحدود السورية أو الأنشطة الإيرانية، بينما يتولى العدو الصهيوني الجانب التكتيكي المباشر كاستهداف منصات الصواريخ. النموذج الثاني يقوم على التكامل في سلسلة الاستهداف، حيث توفر الطائرات الأمريكية المعطيات الأولية عبر التنصت وتحديد المواقع، ثم تتولى الطائرات الإسرائيلية المتابعة الميدانية وتنفيذ الضربات. أما النموذج الثالث فيقوم على المراقبة متعددة الطبقات، بحيث توزع الارتفاعات بين الطائرات الثلاث لتفادي التصادم وضمان استمرارية التغطية الشاملة.
هذه المنظومة المترابطة تخلق صورة عملياتية متكاملة، تجعل من السماء اللبنانية مسرحًا مفتوحًا أمام هيمنة استخباراتية أمريكية – صهيونية – فرنسية. إنها ليست مجرد خروقات متفرقة، بل جزء من استراتيجية دائمة تفرض هيمنة معلوماتية كاملة، وتُبقي لبنان تحت أعين منظومات المراقبة والقتل المتقدم.
خلاصة القول، إن الطائرات الأمريكية غير المأهولة لا تمثل فقط تهديدًا لسيادة الأجواء اللبنانية، بل تشكل عنصرًا أساسيًا في شبكة تحالف استخباراتي عابر للحدود. هي أداة لتثبيت معادلات الردع والهيمنة في منطقة متفجرة، وتؤكد أن سماء لبنان تحولت إلى فضاء مفتوح أمام خصومه، في ظل عجز الدولة عن فرض أي شكل من أشكال الرقابة أو الردع.
الكاتب: غرفة التحرير