السبت 27 أيلول , 2025 12:28

الاعتراف الدولي بحلّ الدولتين: خطوة ناقصة بلا التزام حقيقي

مظاهرات في أوروبا

يشكّل موضوع الاعتراف الدولي بحلّ الدولتين، أي بدولة فلسطين إلى جانب "إسرائيل"، أحد أكثر الملفات تعقيدًا في النظام الدولي المعاصر. فهو يتجاوز كونه مجرّد إجراء دبلوماسي رمزي ليكشف عن عمق التناقض بين مبادئ القانون الدولي ومصالح القوى الكبرى. الاعتراف بالدولة الفلسطينية فعل سياسي وقانوني يغيّر موازين الشرعية الدولية، ويعيد تعريف العلاقة بين الاحتلال وحقوق الشعب الفلسطيني. فمنذ إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، حصلت فلسطين على اعتراف أكثر من 140 دولة، معظمها من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن الموقف الغربي ظل مترددًا إلى أن شهدت السنوات الأخيرة، ولا سيما بين 2014 و2025، تحولات بارزة مع دخول دول أوروبية وغربية كبرى على خط الاعتراف.

الموجة الجديدة من الاعترافات

في سبتمبر 2025، شهدت الأمم المتحدة نقلة نوعية حين أعلنت دول غربية مؤثرة، مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال وفرنسا، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، بينما عبّرت دول أخرى مثل بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وأندورا عن نيتها الانضمام. هذا التحول يكتسب أهمية خاصة لأنه يأتي من داخل الكتلة الغربية التقليدية الداعمة لإسرائيل، ما يضعها أمام عزلة سياسية متنامية، ويمنح الفلسطينيين أدوات دبلوماسية وقانونية إضافية.

هذه الموجة تختلف عن الاعترافات التاريخية التي صدرت غالبًا عن دول عربية وأفريقية وآسيوية انطلاقًا من مواقف تضامنية أو أيديولوجية. أما التحرك الغربي فيرتبط بعوامل أخرى أبرزها الضغط الشعبي في الداخل نتيجة مشاهد الحرب والإبادة في غزة، والرغبة في إنقاذ مسار حل الدولتين كإطار لتسوية النزاع، مع الحرص على ربط الاعتراف بشروط سياسية محددة مثل استبعاد حماس من أي صيغة حكم أو إطلاق سراح رهائن.

الأبعاد السياسية والدبلوماسية

الاعترافات الأخيرة تحمل آثارًا قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى. فعلى المدى القريب، تعزز الشرعية الفلسطينية في المحافل الدولية وتزيد عزلة إسرائيل دبلوماسيًا. أما على المدى المتوسط، فهي تفتح المجال أمام فلسطين للاستفادة من مسارات قانونية أوسع، مثل اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وربما تؤثر على صفقات التعاون العسكري والاقتصادي. وعلى المدى البعيد، قد تؤدي هذه الاعترافات إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي إذا استُثمرت لدعم السلطة الفلسطينية أو فرض تسويات على الفصائل. كما يمكن أن تمهّد لصفقة إقليمية برعاية قوى مثل السعودية وفرنسا، لكنها غالبًا ستكون مشروطة بنزع سلاح المقاومة في غزة مقابل مساعدات وإعادة إعمار.

دوافع القوى الغربية

من المهم التمييز بين الخطاب المعلن والدوافع الحقيقية. فالسعودية تقدّم الاعتراف كجزء من دعمها للقضية الفلسطينية، لكنها في الواقع تستخدمه كورقة في مسار التطبيع مع إسرائيل ولتعزيز موقعها الإقليمي. أما فرنسا فتتبنّى خطاب الشرعية الدولية، لكنها تستثمر الاعتراف لترميم صورتها داخليًا بعد الغضب الشعبي من سياستها تجاه غزة، ولتعزيز نفوذها في شرق المتوسط. أما الدول الغربية عمومًا فترى في الاعتراف وسيلة لإدارة الغضب الشعبي وحماية مصالحها الاستراتيجية، لا سيما الطاقة والتجارة، مع الاستمرار في تقديم دعم عسكري وسياسي لإسرائيل.

هذه الازدواجية تضع الاعتراف في خانة "النفاق الدبلوماسي"، إذ يتحوّل إلى أداة لإدارة الأزمات أكثر من كونه التزامًا مبدئيًا بالشرعية الدولية. فبينما تعلن العواصم الغربية دعمها لحقوق الإنسان، تستمر في منح إسرائيل غطاءً سياسياً وعسكرياً في حربها على غزة، وتتفادى فرض عقوبات حقيقية أو اتخاذ خطوات لوقف المجازر.

دور الأمم المتحدة والمبادرات الدولية

قمة الأمم المتحدة الأخيرة، التي رعتها فرنسا والسعودية، أقرّت نصًا داعمًا لحل الدولتين بأغلبية واسعة، ما أضفى غطاءً سياسيًا دوليًا لهذه الموجة من الاعترافات. ومع ذلك، تبقى قرارات الجمعية العامة رمزية وغير ملزمة، ولا يمكن أن تُترجم إلى واقع دون إرادة سياسية من القوى الكبرى. هنا يظهر دور السعودية التي تسعى لإعادة تثبيت مكانتها الإقليمية، وربط أي تطبيع محتمل مع إسرائيل بمسار سياسي يضمن الحد الأدنى من الشرعية أمام الرأي العام العربي والإسلامي. أما فرنسا، فتبحث عن دور قيادي في الشرق الأوسط يعيد إليها نفوذًا طالما سعت لتأكيده.

حدود التأثير العملي

رغم كل ما سبق، يبقى السؤال الأساسي: ما الذي تغيّره هذه الاعترافات على الأرض؟ الحقيقة أن الاعتراف يعزز الموقع القانوني والدبلوماسي لفلسطين، لكنه لا يوقف الحرب، ولا يعيد اللاجئين، ولا يفرض على إسرائيل التخلي عن سياساتها. فغياب آلية تنفيذ دولية فعّالة، واستمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي، والاعتماد على حسابات القوى الكبرى، كلها عوامل تحدّ من أي تأثير مباشر.

إنّ ما حدث هو تحوّل دبلوماسي مهم، لكنه يظل خطوة ناقصة. فهو لا يمثل التزامًا صادقًا من الغرب بقدر ما يعكس محاولة لإدارة أزمة متعددة الأبعاد: امتصاص الغضب الشعبي، حماية مسار التطبيع من الانهيار، والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية. بهذا المعنى، يبقى الاعتراف أقرب إلى خطاب سياسي براغماتي منه إلى فعل يغيّر واقع الفلسطينيين.

بالخلاصة، الاعتراف الدولي بحلّ الدولتين في شكله الحالي هو تحوّل مهم على الصعيد الدبلوماسي، لكنه يفتقر إلى مضمون عملي حقيقي. فبينما يمنح الفلسطينيين دفعة معنوية وأدوات قانونية جديدة، يظل رهينة الشروط والقيود التي تفرضها القوى الكبرى. والأهم أنّه لا يترافق مع ضغوط جدية على إسرائيل لوقف الحرب أو إنهاء الاحتلال. لذلك يمكن اعتباره خطوة ناقصة، أقرب إلى محاولة لتخفيف الأزمات الغربية الداخلية والترويج لمسار سياسي هش، لا إلى التزام جاد بتحقيق العدالة وحقوق الشعب الفلسطيني.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور