يكشف خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بوضوح عن طبيعة مقاربة إدارته للعالم في ولايته الثانية. بدلاً من تقديم رؤية متماسكة للتعاون الدولي، جاء الخطاب سلسلة من الأوامر المباشرة، الجمل الحادة، والرسائل التي عكست نزعة قومية صدامية، جعلت من الأمم المتحدة منبراً لإلقاء تعليمات لا لبناء تفاهمات، كما يراها هو لا كما يجب أن تكون.
منذ بدايته، حمل الخطاب نبرة أقرب إلى خطاب تعبوي داخلي منه إلى كلمة رئيس "دولة عظمى" في أكبر محفل دولي. ففي قضايا الهجرة، تغيُّر المناخ، والطاقة، لم يسعَ ترامب إلى بناء إطار للتعاون أو طرح حلول مشتركة، بل وجّه دعوات صريحة للدول لإغلاق حدودها، تجاهل ملف المناخ، والتوقف عن شراء النفط الروسي. هذه اللغة لم تترك مجالاً للتأويل: الولايات المتحدة تريد من الآخرين أن يتبعوا خطها دون نقاش.
المفارقة أن ترامب لم يكتف بطرح مواقف سياسية مثيرة للجدل، بل لجأ إلى عبارات قاسية مثل قوله إن بعض الدول "ستذهب إلى الجحيم"، وأورد أرقاماً ومعلومات مشكوكاً بدقتها، بما يعكس ارتجالية واضحة في التعامل مع قضايا حساسة. حتى حديثه عن أن الولايات المتحدة "أكثر دول العالم حرارة" بدا بعيداً عن سياق النقاش المناخي، ما أثار تساؤلات حول مدى جدية الطرح.
في المقابل، لم يخلُ الخطاب من محاولة خجولة لإظهار الولايات المتحدة كقائدة لمسار دولي حين دعا إلى مبادرة للحد من الأسلحة البيولوجية. لكن هذه الإشارة بدت يتيمة في خطاب طغت عليه نزعة الانعزال والاستخفاف بالعمل متعدد الأطراف. فقد انصب معظم الحديث على انتقاد أداء الأمم المتحدة نفسها، واتهامها بالعجز والاكتفاء ببيانات لا أثر لها. ورغم أن هذا النقد قد يجد آذاناً صاغية لدى بعض المراقبين، إلا أن المفارقة تكمن في أن واشنطن هي من تعمد في كثير من الأحيان إلى إضعاف المنظمة عبر حجب التمويل أو الانسحاب منها او اجبارها على اتخاذ مواقف معينة وتحديداً خلال الحرب الاسرائيلية المستمرة على قطاع غزة والحرب الغربية الروسية في أوكرانيا.
ردود الفعل الدولية لم تكن مفاجئة. كثير من الدبلوماسيين وصفوا الخطاب بأنه غير مثمر، بل وخطير في بعض جوانبه، إذ أظهر استخفافاً بجهود حلفاء واشنطن أنفسهم. الدول الأوروبية، على سبيل المثال، وجدت نفسها متهمة بالتقصير في مواجهة روسيا، في حين أنها فرضت عقوبات مشددة على موسكو وقلصت اعتمادها على الطاقة الروسية. هذا الخطاب أظهر أن الإدارة الأميركية لا ترى إلا روايتها الخاصة، وأنها دائماً ما تطلب المزيد حتى من حلفائها دون مراعاة اوضاعهم الداخلية وتأثرهم المباشر بمثل هذه القرارات.
رسخ الخطاب صورة واشنطن كقوة لا تسعى إلى قيادة جماعية بل إلى فرض الوصاية. منطق ترامب لم يكن مبنياً على الإقناع أو الشراكة، بل على إملاء الشروط: من يلتزم بالنهج الأميركي مرحّب به، ومن يرفض فهو متهم بالتخاذل أو العجز. بهذا المعنى، لم يكن الخطاب مجرد موقف سياسي بل تجسيداً لعقيدة تقوم على تقويض أسس النظام الدولي الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية.
الرسالة التي خرج بها كثير من الحاضرين لم تكن تتعلق برؤية لمستقبل العالم، بل بقلق متزايد من أن السنوات المقبلة قد تشهد مزيداً من الاضطراب في العلاقة مع الولايات المتحدة. فحين يتعامل الرئيس الأميركي مع الأمم المتحدة وكأنها منصة انتخابية، ويستعرض إنجازاته الداخلية بأسلوب خطاب حالة الاتحاد، فإن ذلك يعكس تركيزاً على الجمهور المحلي أكثر من كونه محاولة للتواصل مع شركاء دوليين.
ما يتضح هنا هو أن الإدارة الأميركية تعيد إنتاج خطاب يقوم على الانعزال، ولكن بصيغة هجومية لا دفاعية. واشنطن تريد أن تملي على الآخرين كيف يتصرفون، دون أن تلتزم هي نفسها بقواعد النظام المتعدد الأطراف. هذه المفارقة تفسر القلق الذي عبّر عنه العديد من المسؤولين الأجانب عقب الكلمة.
يمكن وصف خطاب ترامب في الأمم المتحدة بأنه مؤشر على مسار سياسي يضعف الثقة بالقيادة الأميركية، ويزيد من هشاشة النظام الدولي. لقد كان مناسبة ضائعة لإظهار قدرة واشنطن على بلورة رؤية جامعة، وتحول بدلاً من ذلك إلى استعراض شخصي حمل معه نبرة تهديد وسخرية أكثر مما حمل من دعوة إلى التعاون. بالنسبة للدول الأخرى، قد لا يكون هناك خيار سوى التعايش مع هذه المقاربة، لكن الثمن سيكون تراجعاً أكبر في قدرة المجتمع الدولي على مواجهة أزماته المشتركة.
الكاتب: غرفة التحرير