الإثنين 29 أيار , 2023 03:37

السودان ولعنة الذهب

التنقيب عن الذهب في السودان

أججت الصراعات الداخلية في السودان بهدف إسقاط الرئيس عمر البشير، فالرجل كان من ذلك الرعيل الذي رفض العلاقة مع الكيان الصهيوني، ومقتنع بدعم الشعب الفلسطيني وثورته، وبقي كذلك حتى خضع للعزل من منصبه ومحاكمات "الربيع العربي" التي اجتاحت السودان والمنطقة، وأنهكتها كما البلاد العربية بقتال خارجي داعشي لئيم. ولذا فليس مستغرباً ألا نشعر أن المؤامرة على السودان لن تقف عند حدود التطبيع مع الكيان المؤقت، ولكنه مستمر مع مخطط قديم جديد بتقسيم السودان إلى أكثر من شمال وجنوب، بل إلى أكثر من دولتين لفرض السيطرة التامة على مقداراته وبخاصة النفط والذهب.

فيما يزال طرفي "النزاع" في السودان يتبادلان الإتهامات بإنتهاك وقف إطلاق النار، هناك حقيقة يجب الإلتفات إليها، أنه قد يتسبب بإنتهاك وقف النار طرف ثالث أو رابع أو خامس يقوم بإطلاق النار على الطرفين من أجل عودة المعارك. الأمر له علاقة بقرار خارجي يرى أنه ليس من مصلحته وقف الصراع في هذا البلد حتى تتأمن له المصلحة التي من أجلها ابتدأ الحرب في الأساس. وبما أن الأصابع الإسرائيلية والأميركية تعبث في هذا البلد العربي، الذي كان في طلائع المقاتلين مع المقاومات الفلسطينية المتعاقبة ووقع اليوم في براثن التطبيع، فليس من قابلية لهدوء مرتقب فيه. لأن القصة ليست سهلة، إنها قصة الذهب وإعادة تقييم النقد من خلال إحتياطيه وخاصة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.

ضمن هذه المعطيات التي باتت مثبتة فإن مسألة السودان باتت قضية ملحة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعلم أنها خسرت حربها بالوكالة في اليمن، وثمة خطر قادم على القوات الأميركية والإسرائيلية المتواجدة في جزر سقطرى ومنون وغيرها من الجزر، يتوعد به أحرار اليمن الذين خبرناهم خلال السنين الماضية. فاليمن له أهمية استراتيجية بسبب موقعه على مضيق باب المندب وبسبب غناه بالنفط والغاز، وهاتان الميزتان باتتا خارج القبضة الأميركية ومن يمثلها في الحرب. فيما تمر أميركا اليوم في محنة اقتصادية صعبة والمخرج الوحيد لها اليوم من أجل حماية عملتها هو الذهب. واليمن يملك مناجم الذهب الواعدة، ولكن ضمان وصول اليد الأميركية له بات خارج الحسابات. لذلك وللأسف، فإن السودان يعد بمثابة الخطة باء.

في الحقيقة، إن أميركا اليوم أحوج مما كانت من أي مرحلة سابقة من أجل دعم عملتها واقتصادها المتهالك بالذهب. ولذلك كان لابد من افتعال أزمة في السودان تخرج منافيسيها منها عبر تسريع انهيار الأمن السوداني ومحاولة إخراج قوات فاغنر لتستفرد بالوجود الأمني إن لم نقل العسكري هناك؛ فقوات فاغنر التي تقوم بدورها في حراسة مناجم الذهب والتي يقال ان فاغنر تعتمد على بعض من مردودها لتمويل تواجدها. ولكن ما يقلق الأميركيين أكثر هو الإتفاق الروسي السوداني في العام 2020 لإنشاء قاعدة "فلامنغو" الروسية بورتسودان، الإتفاق الذي توقف جزئياً والذي أعيد إحياؤه خلال زيارة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي لموسكو بين أواخر شباط/ فبراير وأول آذار/ مارس في العام الماضي، ووعدت روسيا ببناء القاعدة التي ستضم أربع سفن نووية في السودان.

أهداف أمريكا في السودان:

هناك أربعة أهداف تسعى أميركا لتحقيقها: الأول، محاصرة روسيا في السودان وإخراجها منه نهائياً، إن استطاعت. والثاني، سرقة الذهب أو شراؤه بتسعير الدولار وقد يؤدي ذلك إلى رفع قيمة الأخير. والثالث، تنشيط بيع شركات السلاح في أميركا و"إسرائيل". والرابع، وهذا السبب مرتبط بالفشل باليمن، فأمريكا تبحث عن ملاذ آمن على بوابة البحر الأحمر بعيداً عن أنصار الله في اليمن وعن القاعدة الصينية في جيبوتي، وبهذا لم يتبق سوى السودان مرتعاً للعب الأميركيين والصهاينة، وخاصة خلال هذه المرحلة من الضعف والتفكك التي يعانيها. ومما يسهل عمل الأميركيين في السودان دون تواجد مباشر على الأرض، وجود المخابرات الإسرائيلية (الموساد) والتي باتت تعمل هناك بموافقة الأطراف السودانية بموجب اتفاقية ابراهام للتطبيع ووجود حلفاء لأمريكا من بعض دول الخليج وخاصة الإماراتيون. ومع أن السعوديين يحاولون لعب دور في التهدئة في السودان، ولكن هذا الدور لم ينتج أمناً حتى الساعة.

في أية حرب أميركية أو أي نزاع داخلي يتدخل فيه الأميركيون يجب البحث عن دور شركات السلاح. ولكن اليوم يضاف إلى ذلك الإقتصاد الأميركي المتهالك وفضح الحقيقة بأن البنك الفيدرالي الأميركي الذي يطبع الدولار خال من احتياطي الذهب اللازم لدعم قيمة الدولار. وهذا ما أراد الرئيس جون كنيدي فضحه في الخمسينات فاغتيل من قبل المخابرات الأميركية. ثم عاد وكشفه نيكسون في السبعينات. هذا مع العلم، أن أميركا تمتلك أكبر إحتياطي عالمي من الذهب. ولكن ربط سعر النفط بالدولار هو ما يحافظ على القيمة العالمية للدولار وما سيفقده إياه توجه الدول للتعامل بالعملات الوطنية. وما يحافظ على الدولار أيضاً، له علاقة بربط شبكة التحويلات العالمية ببرنامج سويفت للتحويلات المالية، والتي تمرعبر المركز في بلجيكا، والمرتبطة مباشرة بالبنك الفيدرالي الأميركي مما يمنح الولايات المتحدة اليد العليا في السيطرة على التحويلات المالية التي تجري عالمياً وبالتالي إمكانية فرض العقوبات والحصار على من تعتبره أميركا أعداء لها، وخاصة مع نشوء أنظمة تحويل الأموال الجديدة في روسيا والصين وبالعملات المحلية، والذي بات يشكل خطراً أكبر، وإذا ما كانت الولايات المتحدة تريد الحفاظ على قيمة عملتها الوطنية فإما يجب أن تعود لنظام القطبية الواحد، وهذا مستحيل، أو أن تدعم قيمة دولارها بالذهب.

لكن أمريكا اليوم تمر بصعوبات مالية كبرى، تزداد مع طبع كميات أكبر من الدولار توزعها في السوق الأميركي والعالمي من أجل سد ديونها الداخلية كما الخارجية، فقد تجاوز الدين العام الحد الأقصى للإستدانة الذي قرره الكونغرس، وتبلغ قيمته 4.28 ترليون دولار (منها نحو 900 مليار للصين فقط)، وهو رقم قياسي مقاربة بجميع الديون السيادية في العالم. الأمر الذي سيؤدي حتماً لانهيار اقتصادي اميركي كبير، وكما العادة تعتمد الدول الغربية الاستعمارية بتركيبتها في رفع مستواها الإقتصادي على نهب الشعوب، فنحن نشهد اليوم انخفاض مستوى الخدمات الإجتماعية في أوروبا والتي تجلت أولاً برفع سن التقاعد في فرنسا تحديداً.

في ألمانيا يحدث الشيء نفسه، إذ بحسب القادمين من هناك، بإستثناء الذين تسببت لهم الأمراض بآلام مبرحة كالديسك فإن المعتمدين على الخدمات الإجتماعية عليهم القيام بمهمات ولو صغيرة، مثل طوي الغسيل أو كيه في المستشفيات لمدة أربع ساعات يومياً، مقابل ما يتلقونه من دفعات شهرية، هذا ما عدا ارتفاع أسعار السلع الغذائية بشكل كبير. ما يجري على أوروبا ينطبق على أميركا والتراجع ابتدأ مع انتشار مشاريع الإستثمار الصينية في أفريقيا، ويمكننا القول هنا أنه مع بدء السياسة الاقتصادية الصينية في القارة السمراء، بدأ الغرب بالعض على شفتيه واليوم يدميها، ومع تفلت أفريقيا من المعاهدات مع الغرب وخروج اليمن من المعادلة لم يبق في الميدان سوى السودان.

ابتدأت الأحداث في السودان ضد عمر البشير، أو الثورات في السودان في العام 2019، بالتوازي مع ما سمي يومها بثورات الربيع المتاخرة والتي انطلقت في كل من الجزائر ولبنان والعراق، فقد جاءت متأخرة ثمان سنوات. فتسارعت الأحداث في السودان، وتمت الإطاحة بحكومة البشير وابتدأ حكم حكومات العسكر المتوافقة مع الرؤية الأميركية. ولم تكف يد أحد عن التدخل في السودان وكل بحسب ما قدر له: تركيا، وأنهت وجودها السعودية والإمارات المتواجدتين على الأرض، وبدأ التدخل الاسرائيلي مع توقيع اتفاقية ابراهام في العام 2020. ثم تدخلت قوات فاغنر من أجل حماية مناجم الذهب.

عناصر من قوات فاغنر الروسية في السودان

وهنا علينا أن نعلم أن اكتشاف الذهب في السودان كان في العام 2012 فقط، أي أن الأمر حديث نسبياً، واكتشف صدفة في تلال جبل عامر في بني حسين في ولاية شمال دارفور. ويبلغ احتياطي الذهب اليوم فيه حوالي 1550 طن. وجميع الأفرقاء اللاعبين يريدون وضع اليد عليه. الغريب أنه مع هذا الحجم من احتياطي الذهب والثروات الباطنية والأراضي الزراعية الخصبة، ومع ذلك فالمواطنين السودانين بحاجة للمساعدات الإنسانية الغذائية والدوائية بسبب انتشار الفقر والأوبئة. وحتى اليوم ليس هناك من لاعب أساسي على المستوى الداخلي يستطيع لجم سرقة البلاد ويبغي مصلحتها، واللاعبون الخارجيون تضيء أعينهم لرؤية البريق فقط، وأما اللاعبون الإقليميون فهم كما اللاعبون الداخليون كل منهم مرتبط إما بأجندة أميركية أو أجندة صهيونية يعميها بريق الذهب.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب:

عبير بسّام

-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU 




روزنامة المحور