بعد عامين من عدوان إسرائيلي وحشي على قطاع غزة، وإلقاء ما يزيد عن 110 آلاف طن من المتفجرات، وعمليات برية عسكرية شارك فيها أكثر من 3 فرق وعشرات آلاف من جنود جيش الاحتلال. لا تزال المقاومة الفلسطينية هناك تسجّل أروع ملاحم البطولة الإعجازية، التي تجمع الذكاء التخطيطي والروحية القتالية معاً، لتؤكّد أنها الطرف المنتصر حتماً رغم فارق الإمكانيات المادية.
فعملية إغارة خانيونس النوعية التي نفذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام منذ أيام، ضربت بقوة الوعي الإسرائيلي، حتى دفعت البعض للقول بأنها شكّلت ضربة عسكرية جديدة مماثلة لما حصل خلال عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، إن لناحية الجرأة في أخذ القرار والتخطيط بأدقّ التفاصيل وضرب عمق التواجد العسكري للجيش الإسرائيلي ومباغتته وانتخاب أفضل الأهداف والقتال المشترك بقوى متعددة الاختصاصات سواء القتالي من مسافة صفر وأفراد ضد الدروع والاسناد المدفعي بقذائف الهاون.
ويكفي لقياس شدةّ تأثر الكيان المؤقت بما حصل في العملية، هو قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي باختلاق الكثير من الأكاذيب حول تفاصيل العملية، وقيام وسائل الإعلام عنده تفنيد روايته. وأيضاً، مشهد قيام إحدى دبابات جيش الاحتلال بمحاصرة قائد العملية الشهيد عبد الله خليل عابدين "أبو فراس"، وتعمّد دهسه حتى ارتقى شهيداً وهو يواجهها بكل صلابة.
تفاصيل العملية
ووفقاً لبيان كتائب الشهيد عز الدين القسام، نفذت قوة قوامها فصيل مشاة الإغارة على موقع مستحدث لجيش الاحتلال، جنوبي شرق مدينة خانيونس جنوبي القطاع، حيث اقتحم المجاهدون الموقع واستهدفوا عددًا من دبابات الحراسة من نوع "ميركافا 4" بعدد من عبوات الشواظ والعمل الفدائي وقذائف "الياسين 105". كما استهدف المقاومون عددًا من المنازل التي يتحصن بداخلها جنود الاحتلال لتثبيتها بـ 6 قذائف مضادة للتحصينات والأفراد ونيران الأسلحة الرشاشة، واقتحم عدد منهم المنازل وأجهزوا بداخلها على عدد من جنود الاحتلال من المسافة صفر بالأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية. وتمكّن مجاهدو القسام أيضاً من قنص قائد دبابة "ميركافا 4" وإصابته إصابة قاتلة، فيما دك عناصر الإسناد في المقاومة المواقع المحيطة لمكان العملية بعدد من قذائف الهاون لقطع النجدات، ودكوا موقع العملية بعدد من قذائف الهاون لتأمين انسحاب أفراد الهجوم من المكان. وعند وصول قوة الإنقاذ الإسرائيلية، قام أحد الاستشهاديين بتفجير نفسه في الجنود وأوقعهم بين قتيل وجريح، واستمر الهجوم لعدة ساعات، لما يستطع الإسرائيليون خلاله المبادة الا من خلال سلاح الجو، فيما رصد المقاومون بعد العملية هبوط الطيران المروحي لإخلاء الإصابات.
واعترفت إذاعة جيش الاحتلال، بأن النفق الذي خرج منه المقاومون كان قد دخله الجيش الإسرائيلي سابقًا، وأن كاميرا المراقبة عطلتها نيران المقاومين فيما كان الجنود الإسرائيليين نائمين.
ووفق تحقيق جيش الاحتلال الذي فإن إغارة المقاومة كانت بالتفصيل التالي:
1)نفّذ الهجوم فصيلٌ من حوالي 15 فرد، ضد موقع تتواجد فيه سرية "سييرت حروف" تابعة للواء كفير وتتمركز فيه منذ عدة أسابيع. وهذا الموقع الذي يُنفّذ منه غاراتٍ وهجماتٍ في منطقة "ماغن عوز" غربي خان يونس.
خرج المقاومون من فتحة نفقٍ تبعد 40-50 مترًا من الموقع، وانقسموا إلى 3 فرق. وفي بداية الهجوم، أطلق عناصر المقاومة النار على كاميرا مراقبة وأعطبوها، ما أدى إلى ضعف فعالية المراقبة، واكتشف الجنود التسلل بعد اختراق الموقع.
2)حاصرت الفريق الأول المكوّن من ٦-٧ مقاومين، الساتر الترابي المحيط بفرقة الدفاع، ووصلت إلى مبنى كانت تتواجد فيه قوة بقيادة نائب قائد السرية، وكان معظم الجنود نائمين فيه. وعندما دخل مقاومان المبنى، أيقظ قائد الفصيل جنوده، وزعم الجيش الإسرائيلي بأن الجنود استيقظوا وقاتلوا من نقطة صفر وأنهم استطاعوا قتل عدد من المقاومين.
3)منذ لحظة الإعلان عن الحدث، تم تفعيل جميع الأوامر اللازمة، وانطلقت القوات المدرعة وسلاح الجو. داخل إطار الدفاع نفسه، رصد قائد فصيل دبابات إطلاق قذائف آر بي جي من المقاومين باتجاه مبنى. فأطلق قائد الدبابة ٣ قذائف منها، وقتل ٣ مقاومين.
4)وصلت دبابة أخرى إلى منطقة الدفاع، ورصدت مقاوماً راكعًا على الأرض وبيده قذيفة آر بي جي، ودهسته. وبيّن تحقيق الجيش أنه حتى هذه اللحظة، تمكن أفراده من القضاء على ما مجموعه 6 – 8 مقاومين.
5)في الوقت نفسه، أطلقت فرقة أخرى، قوامها ٧-٨ مقاومين، كانت في الخلف، نيران قذائف الهاون في محاولة لعرقلة وصول تعزيزات الجيش الإسرائيلي إلى موقع الحادث. رصدت الدبابات مقاوماً حاول دخول النفق وقتلته. معتقداً بأن بقية المقاومين من الفرقة تمكنوا من الانكفاء إلى داخل النفق. مضيفاً بأن القوات الإسرائيلية قامت بتفتيش المنطقة وتأكد خلوها من المقاومين، الذين وضعوا عبوات ناسفة على مسار انسحابهم، في محاولة لإلحاق الضرر بالقوات التي ستطاردهم. وهذا ما دحضه أور فيالكوف على صفحته حيث قال: "إن الادعاء بأن بعض المسلحين تمكنوا من الفرار إلى داخل النفق خاطئ في أحسن الأحوال وكاذب في أسوأها. نشرتُ فيديو غير مُحرّر(مرفق هنا)، على عكس فيديو المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلي، والذي يظهر فيه 8 مسلحين يدخلون النفق دون إطلاق النار عليهم، ثم يفرون من المنطقة".
وأما بالنسبة للمزاعم الإسرائيلية حول عدد الشهداء، فلم يستطع الكيان إظهار سوى جثماني شهيدين خارج أحد المباني في الموقع وآخر هو قائد العملية الذي استشهد دهساً. وعليه فإن أغلب الترجيح أن فصيل المقاومة استطاع عناصره الانكفاء الى النفق دون أن يتم رصدهم وهذا ما يؤكده الفيديو أعلاه أيضاً.
6)زعم الجيش الإسرائيلي بأن تسلل المقاومين إلى الموقع حتى انسحابهم استمر حوالي 10 دقائق، وأنه حتى تم تحديد هوية آخر مقاوم والقضاء عليه، استمرت العملية حوالي 3 ساعات. وأضاف الجيش بأن قواته لا تزال تعمل على فتحة النفق التي دخل منها المقاومون لتدمير المسار تحت الأرض.
7)ذكر تحقيق الجيش بأنه عثر مع المقاومين الشهداء: سترات واقية، أسلحة كلاشينكوف، قاذفة آر بي جي متطورة، أنواع مختلفة من القنابل اليدوية، عبوات ناسفة، ونقالة. مقدّراً بأن النقالة كانت معدّة لاختطاف جندي.
8)كشف تحقيق جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه قبل حوالي شهرين، وصلت قواته إلى المسار تحت الأرض الذي خرج منه المقاومون، وقامت قوة بعملية "تحييد نقطة" في أحد الأنفاق القريبة، تم تحييد المجرى نفسه، ولكنها لم تدمر المسار تحت الأرض بالكامل، وأن هذا ما سمح للمقاومين أن يقوموا بفتح فتحة جديدة قريبة والخروج من خلالها. واعترف الجيش الإسرائيلي بأن كتائب القسام لديها القدرة على ترميم الأنفاق تحت الأرض، والتي تم تدميرها جزئيًا.
المقاومة والتحوّل من الدفاع إلى الهجوم المبادر
هذه العملية تؤكد أن الميدان لم ولن يُحسم، وأن المعركة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، خاصةً وأن هذه العملية لم تكن مجرد اشتباك عابر، بل إعلان واضح بأن المقاومة تجاوزت مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم المبادر. فهي لم تنتظر تحرك قوات الاحتلال، بل باغتت الموقع العسكري المحصّن بهجوم منظم، بما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في طبيعة الصراع، حيث باتت المقاومة قادرة على فرض إيقاع المعركة وتحديد زمانها ومكانها.
وهذه بعض النقاط التي يجب التوقف عندها:
_استخدام الأنفاق بذكاء تكتيكي: اختيار فتحة نفق تبعد نحو 40 إلى 50 مترًا فقط عن الموقع العسكري الإسرائيلي دليل على أن التخطيط لم يكن عشوائيًا. فالاحتلال نفسه يعترف أن هذا المسار كان قد "عُولج" سابقًا، لكن المقاومة أعادت تفعيله وفتحت فتحة جديدة. وهذا يبرز قدرة هندسية عالية ومرونة ميدانية، ويؤكد أن بنية المقاومة تحت الأرض ما زالت عصية على التدمير الكامل، مهما حاول الاحتلال.
_التحضير الاستخباري واختيار التوقيت: ما يلفت أكثر هو أن العملية لم تكن نتيجة اندفاع لحظي، بل نتاج مراقبة دقيقة ورصد استخباري مسبق. فقد درست المقاومة الموقع ورصدت أنماط الحراسة ونقاط المراقبة، حيث نجحت في تعطيل كاميرات المراقبة، واكتشفت لحظة الضعف التي تكمن في فترة نوم الجنود داخل المبنى. لذلك، وقع الهجوم في توقيت مدروس حيث كان معظم الجنود نائمين، الأمر الذي ضاعف عنصر المفاجأة وأفقد الاحتلال زمام المبادرة منذ اللحظة الأولى.
_التقسيم إلى 3 فرق: المهاجمون، وعددهم حوالي 15 مقاوماً، انقسموا إلى 3 فرق لكل واحد منهم دور محدد: الفريق الأول اقتحم المبنى واشتبك مباشرة مع الجنود، والثاني أمّن العملية بالنيران المضادة للدروع والقنص، والثالث تولّى إطلاق قذائف الهاون لتعطيل وصول التعزيزات. هذا التقسيم يعكس مستوى عسكريًا متقدمًا أشبه بأداء كتيبة مشاة نظامية، ويُظهر قدرة على التنسيق والقيادة الميدانية.
_المفاجأة وتحييد المراقبة: المقاومون بدأوا العملية بتعطيل كاميرا المراقبة بالنيران، ما أضعف القدرة على الرصد وأدخل الجنود في حالة ارتباك. هذا الإجراء البسيط تقنيًا، كان بالغ التأثير ميدانيًا. ويثبت أن المقاومة درست نقاط الضعف جيدًا واختارت أهدافها بدقة، مما جعل اكتشاف التسلل متأخرًا بعد أن كان المقاومون قد دخلوا بالفعل إلى عمق الموقع.
_إدارة اشتباك من مسافة صفر: الاشتباك داخل المبنى كان من أبرز مشاهد العملية، حيث أيقظ قائد الفصيل جنوده من النوم وسط قنابل يدوية ورصاص من مسافة صفر. ومع ذلك تمكن المقاتلون من الصمود داخل المبنى وإرباك القوات، مثبتين أن المعركة في المدى القريب تُسقط تفوق العدو التكنولوجي وتعيدها إلى مواجهة بشرية مباشرة، حيث يتفوق المقاوم بإيمانه وشجاعته. وهذا ما دفع الجيش الاسرائيلي الى استدعاء مدرعات بشكل فوري وتدخل سلاح الجو يشكل سريع لإنقاذ الموقف.
_التحضير لخطف جنود: من بين المضبوطات التي عُثر عليها مع المقاومين كانت هناك نقالة، وهو ما قدّر الاحتلال أنها معدّة لأسر جندي. هذه النقطة تكشف أن العملية لم تكن محدودة بالقتال اللحظي، بل كان لها بُعد استراتيجي أبعد، يتمثل في إمكانية تحقيق ورقة تبادل أسرى، ما يزيد من حجم التحدي أمام المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية خاصة في حال المضي في احتلال القطاع.
_الانسحاب التكتيكي وزرع العبوات: حتى في لحظة الانسحاب، لم تتصرف المقاومة برد فعل ارتجالي، بل زرعت عبوات ناسفة في مسار الانسحاب، محاولة إيقاع خسائر إضافية بالقوات التي ستلاحقهم. وهذا يوضح عقلية قتالية ذكية، تُدير المعركة من بدايتها وحتى نهايتها، وتترك خلفها تهديدًا مستمرًا للعدو.
قائد العملية
أما قائد العملية الشهيد عبد الله خليل عابدين "أبو فراس"، فقصته لوحده تعطي الفكرة عن نوعية المقاومين المميزة في قطاع غزة. فهو المحامي الذي فضّل مسيرة المقاومة والجهاد على أي مسار آخر، وهو قائد النخبة وأحد أمهر المقاومين الذين شاركوا في عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. وخلال الاجتياح الأول لمدينة خان يونس أصيب إصابة بالغة فقد بسببها إحدى عينيه، وأُصيب يومها في قدمه إصابة كادت أن تُقعده. ورغم جراحها عاد إلى الميدان وكأن شيئًا لم يكن، واستمر بالمشاركة في عمليات المقاومة. وفي هذه العملية تقدّم الصفوف، وقاتل حتى أحاطت به الدبابات وقامت بدهسه.
قتال أهل غزة حجّة على كل العالم
وكما قال أحد أفراد العملية في الفيديو الذي انتشر لها بأن المقاومة في قطاع غزة تُثبت أنها حجّة على كل الخانعين والمتقاعسين والمتخاذلين أمام إسرائيل. فإن عملية خان يونس بحق، كشفت بأن المقاومة لم تكتفِ بالصمود تحت القصف والحصار، بل طورت أدواتها لتصبح صاحبة المبادرة الميدانية. فجمعت بين التحضير الاستخباري المسبق، واختيار التوقيت المناسب، واستخدام سلاح الأنفاق بمرونة، وتقسيم الأفراد باحترافية، وتعطيل المراقبة، وخوض الاشتباك القريب، والتحضير لأسر جنود، ثم الانسحاب التكتيكي المزود بالعبوات. وبهذا أثبتت المقاومة أنها ما زالت قادرة على ضرب الاحتلال في عمق مواقعه، وأنها انتقلت من الدفاع إلى الهجوم المنظم، مكرسة معادلة جديدة تعكس تآكل صورة الردع الإسرائيلي.
الكاتب: غرفة التحرير