لم تعد إسرائيل الطرف الذي يتحكّم بإيقاع الحرب، بل تحوّلت إلى ساحة اختبار يوميّ لمدى فاعلية منظوماتها الدفاعية، واستعداد جبهتها الداخلية لتحمّل الاستنزاف طويل الأمد. العدوان الذي شنّته على إيران وضعها أمام مأزق داخلي وإقليمي غير مسبوق منذ عقود.
الهجمات الإيرانية، التي شملت أكثر من 400 صاروخ وقرابة 1000 طائرة مسيّرة، نجحت في اختراق عمق إسرائيل، رغم كثافة النيران المضادة وتفعيل منظومات "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود". هذه الدقة في الاستهداف أعادت رسم ميزان القدرات، وطرحت أسئلة كبرى حول مصداقية الردع الإسرائيلي. خاصة وأنها تستهدف مراكز استخبارية وعسكرية وأمنية حساسة لم تستهدف من قبل.
المفارقة أن دولة لطالما اتُهمت مراراً بقصف المستشفيات والمرافق المدنية في غزة، كما حدث في قصف مستشفى المعمداني عام 2023، تجد نفسها اليوم في موقع "الضحية المدنية"، بعد سنوات من تجاهلها لانتقادات المجتمع الدولي بشأن استهداف البنى التحتية في الحروب السابقة.
شنّت إسرائيل الحرب على أمل توجيه ضربة ساحقة لقدرات إيران النووية والعسكرية، لكنها تجد نفسها اليوم أمام معادلة معقّدة: لا قدرة على الحسم، ولا تصور واضح لإنهاء العمليات. فإيران، رغم الخسائر، لا تزال تحتفظ ببنيتها الدفاعية، ومراكزها الحساسة تحت الأرض لم تُدمّر. كما أن القيادة الإيرانية لم تُظهر أي استعداد للخضوع للضغوط أو التفاوض المشروط.
في المقابل، تتسع الهوة داخل إسرائيل بين السياسيين والعسكريين. الحكومة، التي سوّقت الحرب على أنها "عملية خاطفة"، تجد نفسها مجبرة على إدارة صراع مفتوح وسط هشاشة الجبهة الداخلية، وتآكل ثقة الجمهور.
على المستوى الاقتصادي، تعاني إسرائيل من واقع اقتصادي صعب. وكالة Moody’s خفّضت التصنيف الائتماني إلى A2 مع نظرة سلبية، وسط تقديرات بخسائر مباشرة تفوق 66 مليار دولار، بحسب بنك إسرائيل. العجز المالي تجاوز 7.3% من الناتج المحلي، في مؤشر على تفكّك القدرة على الاستمرار بالزخم نفسه دون دعم خارجي مباشر.
القطاع السياحي انهار بنسبة تتجاوز 85%، مع توقف شبه تام لحركة الطيران وإلغاء آلاف الرحلات. الفنادق في تل أبيب والقدس تعمل بأقل من 10% من قدرتها التشغيلية. أما قطاع التكنولوجيا – الذي مثّل واجهة القوة الناعمة الإسرائيلية – فتراجع فيه الاستثمار بنسبة 37%، وسط انسحاب شركات كبرى وتأجيل مشاريع مثل توسعة مصنع Intel في كريات جات (25 مليار دولار).
لكن الأهم من كل ذلك هو الضرر المعنوي الذي لحق بـ"النموذج الإسرائيلي" نفسه. كيان يسوّق لنفسه كمجتمع ديمقراطي مستقر، وقاعدة آمنة للاستثمار الغربي، يجد نفسه معزولاً في المحافل الدولية، بلا غطاء عسكري مباشر من واشنطن، وبثقة متآكلة من كبريات المؤسسات المالية.
حتى شركاؤه التقليديون في أوروبا باتوا أكثر حذرا في تبرير "حقه في الدفاع عن النفس"، خاصة أن الصور الواردة من المدن الإسرائيلية تُظهر انهيار منظومة الأمن الداخلي، لا بفضل هجوم بري، بل نتيجة لصواريخ متوسطة المدى وطائرات دون طيار. وهو ما يثير قلق العواصم الغربية من تصدير الفشل إلى الداخل الأوروبي.
المفارقة الكبرى أن إسرائيل التي بدأت الحرب لإضعاف إيران، تواجه الآن احتمال الخروج منها منهكة سياسياً، مستنزفة اقتصادياً، ومُحرجة دبلوماسياً، دون أن تنجح في كسر إرادة خصمها أو انتزاع اعتراف دولي بانتصارها. بل إن استمرار إيران في الاحتفاظ بمفاتيح قوتها النووية والردعية، هو بحد ذاته مؤشر على فشل الغاية الأولى للعملية.
لقد دخلت إسرائيل هذه الحرب بـ"مخيلة الانتصار الجوي"، وتخرج منها -على الأرجح- بصورة الكيان الذي لم يعد قادر على حماية سمائه، ولا على طمأنة حلفائه، ولا على إخضاع أعدائه.
الكاتب: غرفة التحرير