السبت 19 شباط , 2022 12:58

معيشة السوريين: الحصار وعوامل النهوض

الاقتصاد في سوريا

بدأت الأحوال المعيشية بالتراجع في سوريا منذ العام 2014 حين احتل تنظيم داعش الوهابي الإرهابي في الشام والعراق منطقة الجزيرة السورية، أي منطقة الفرات بقسميه الشرقي والغربي، وامتد احتلالها إلى البادية السورية ومحافظة حمص.

الهجمة على سوريا كانت أكبر من أن يتصورها أي عاقل. لقد كانت مخيفة! ومع ذلك صمدت سوريا حتى العام 2015 وحدها، ووقفت معها في تلك المرحلة المقاومة الإسلامية في لبنان فقط. أربع سنين منذ بدأ الفوضى والحرب على سوريا في العام 2011 أتخمت بالقتل والتدمير الوحشي الممنهج قبل أن يعي الناس ماذا يحدث، وتهز كيانهم. ولكن بعد معركة تحرير الجرود في العام 2015 ثم وقوف دول مثل إيران وروسيا بشكل علني على خط المواجهة، بدأ يتظهر الصراع الدولي على أرض سوريا بوضوح، وبدأت براثنه تمتد لتطال لقمة عيش المواطن السوري والأوضاع المعيشية.

انطلقت معركة تحرير قسم كبيرمن الأراضي السورية في حلب وحمص وغرب الفرات ودرعا، وفي المقابل سقطت محافظات اخرى مثل جسر الشغور في إدلب. الصمود الذي أبدته الدولة منذ اليوم الأول كان دليلاً على أن سوريا ذاهبة نحو معركة التحرير. وبدأت حركة التحرير لمناطق واسعة في العام 2018، تتظهر أكثر فأكثر. ومعها تراكم الصعوبات المعيشية التي يعيشها المواطن السوري على طول البلاد وعرضها. وأكثر الصعوبات كانت في هجرة المهرة والعقول إلى أوروبا خاصة، والدول العربية الآمنة والعالم عامة. ما حدث حرم سوريا من الخبرات التي دفعت الدولة مئات مليارات الدولارات لبنائها على مدى ثلاثين عاماً. من الناس من هرب خوفاً من التنظيمات الإرهابية والتي اجتاحت شمال وشمال شرق سوريا وتكاثرت كالفطر السام، وبالطبع بدعم أميركي وتركي وبريطاني وفرنسي. ومنهم من هرب مستغلاً فرصة انفتاح أوروبا على السوريين وإعطاءهم التسهيلات لترك بلادهم مع وعود بحياة أفضل. ومنهم من هرب إلى مخيمات اللجوء طمعاً بسنتات قدمتها منظمة اللاجئين في الأمم المتحدة وبعض المنظمات "الحقوقية والإنسانية".

عرض ما جرى من الأحداث في سوريا لا يهدف لتشخيص حجم الصعوبات والحصار والمؤامرة التي تعرض لها هذا البلد الجميل والآمن، والذي كان يشق طريقه نحو تقدم صناعي وزراعي وسياحي وثقافي وتعليمي لافت بالنسبة لبلد صغير في مساحته، والتي تبلغ 185 ألف كم2  فقط. ومن أجل تذكر كيف تدحرجت الأمور لتصل إلى ما وصلت إليه الصعوبات المعيشية، وخصوصاً مع الحصار الذي توج بقانون قيصر في العام 2019. القانون الذي منع سوريا من القدرة على التعامل التجاري مع ثلاثة أرباع دول العالم.

أحد أسباب منع وصول القطع الأجنبية وخاصة بعد العام 2018، وهو أمر لا يلتفت إليه الكثيرون، هو تحرير الأراضي السورية، اذ توقف تدفق الدولارات التي كان يتلقاها الإرهابيون. وهو أمر مثير للسخرية والعجب في آن معا!

بدأت الصعوبات المعيشية بالظهور بعد معركة تحرير الجرود، وازداد الحصار شيئاً فشيئاً، وسعر الليرة السورية بالتدهور في أسواق المال. ولكن في العام 2018 وبعد تحرير حمص، قلب دمشق الحقيقي، بما فيها من منشآت حيوية، وتحرير حلب قلب الصناعة السورية وأهم مركز صناعي في الشرق، تبين حجم الدمار والخسائر. واتضح حجم معركة إعادة البناء الحقيقية.

 تحرير داريا في ريف دمشق وتحرير الغوطة كشف حجم دمار البيوت، ولكن تحرير حمص وحلب كشف حجم دمار المعاقل الإقتصادية. اذ فكك الإرهابيون في المحافظتين المصانع ومعامل الكهرباء وباعها للنظام التركي. إنجازات تحتاج اليوم إلى مليارات من الدولارات قبل وضعها في الخدمة مرة اخرى او إعادة تأهيلها أو بنائها. واشتد الحصار والغضب الأميركي، وبكل معنى الكلمة، بعد انتصار سوريا على العدوان الثلاثي الذي شنته أمريكا بصحبة حليفتيها بريطانيا وفرنسا في نيسان العام 2018.

اتضح منذ ذلك الوقت أن الجيش العربي السوري وحتى المواطن لديه ثقة مطلقة بقدرة الجيش والقيادة على الصمود في الحرب. وفعلياً صمد كلاهما، فبدأت معركة هدم ثقة المواطن من خلال إقرار قانون قيصر في العام 2019. قانون قبع في أدراج الكونغرس الأميركي منذ العام 2014. وتسبب بانحدار الوضع المعيشي في سوريا، وبتضييع البوصلة بين الناس.

 وبدأ ضياع البوصلة لدى البعض، والسؤال حول إذا ما كان الوضع الذي وصل إليه السوريون سببه الحصار أم الفساد أم التخاذل. وضع أفقد الشعور بأهمية الإنتصار الذي حققه الجيش في العام 2018 ومازال يحققه حتى اليوم. ولم يعد الناس قادرين على الصبر وانتظار نتائج ما تقوم به الدولة من محاولة لإستعادة البنى التحتية من أجل دفع عجلة الاقتصاد، وأهمها على الإطلاق: إعادة تشغيل مصادر الطاقة الكهربائية، و تأمين المشتقات النفطية.

الكهرباء ليست فقط حاجة منزلية هامة جداً ترتبط بها في العصر الحديث جميع وسائل المعيشة في داخل البيوت، فقد باتت جزءاً من الحياة اليومية. إنها عصب الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة. بدون كهرباء لا توجد حياة اقتصادية حقيقية. ولا تقل المشتقات النفطية أهمية عن الكهرباء، وهي في الحقيقة عصب انتاج الكهرباء. فإذا أردنا تقديم مثال عن المعاناة المباشرة للمواطن بسبب احتلال شرق الفرات ومنع الدولة السورية من الوصول إلى مصادر النفط والغذاء، وهما عصب الحياة. في وقت وصل فيه سعر كيلو البندورة في رمضان الماضي إلى 2500 ل.س في دمشق، وهومبلغ مهول لموظف يقبض 30 ألف ل.س، أخبرني أحد الأصدقاء وهو من سكان مدينة الميادين في غرب الفرات أن سعر الكيلو في منطقته لم يتجاوز الـ 500 ل.س ويومها كان ذروة إنتاج الموسم في غرب الفرات. أي أن سعر الكيلو ارتفع خمس أضعاف عن سعره الحقيقي ليس بسبب جشع التجار ولكن بسبب غلاء سعر الماوزت المستخدم لنقل المواد الغذائية، وقس على ذلك.

وحتى إصلاح المعامل الكهربائية في سوريا مقترن بشراء معدات الصيانة للمعامل، والتي حرمت منها سوريا بموجب قانون قيصر. فعلى سبيل المثال، قامت شركة سيمنز الألمانية بإعادة تأهيل قطاع الإتصالات في سوريا في أواخر التسعينات، واليوم لا يمكن التعامل معها إلا من خلال وسطاء للإلتفاف على قانون قيصر. وهذا الإلتفاف يقتضي الإستعانة بتجار من القطاع الخاص، وهي سلسلة طويلة من أمراء الحرب الذين على الدولة السورية التعامل معهم، وهذا الإجراء في أغلب الأوقات يدفع ثمنه المواطن من جيبه أو من جيب المغتربين الذين يرسلون الأموال لأهاليهم.

أحد أسباب ما وصل إليه المواطن السوري من حالة من اليأس وعدم القدرة على التحمل، أنه كان مواطناً مرتاحاً ومرفهاً. قد لا يُصدق ذلك بسبب الصورة المشوهة التي أريد إيصالها إلى العالم حول علاقة الدولة بالمواطن. كانت الحياة في سوريا مريحة، والأمور الأساسية تصل المواطن وبأرخص الأسعار، وحرصت الدولة على أن يكون قوام بنائها الإقتصادي وحاصل الدخل القومي فيها معتمداً على الإنتاج المحلي من صناعة وزراعة وتجارة داخلية وخارجية والسياحة الداخلية والخارجية، بدلاً من الإعتماد على الثروات الباطنية فقط. وأمّن الإهتمام بالتجارة والسياحة الداخليتين أهم عامل لرخاء المواطن واتساع دائرة الطبقة المتوسطة في البلد، ألا وهو "دوران العملة الوطنية".

المشكلة أن عمر المأساة المعيشية التي يعيشها المواطن السوري لا تتجاوز البضع سنوات. ولكن الكثيرين غير قادرين على التوازن والوقوف بعد سلسلة الضربات الموجعة من غلاء الأسعار الفاحش وضياع المقومات الحقيقة للعيش الكريم والمريح وأهمها الكهرباء والمحروقات. وأما الكهرباء فعودتها المنتظمة ترتبط بالخطط التي تضعها الدولة وهي عملية بناء مستمر ولكن نتائجها لن تظهر إلا بعد عدة سنوات وقد تحتاج ما بين 2-5 سنوات على الأقل. وأما المحروقات فلن تظهر نتائج بدأ استثمارات المصادر البديلة لما ينتج في شرق الفرات من غاز وبترول، إلا بعد إعادة إصلاح بعض الآبار القديمة التي دمرها داعش بشكل ممنهج، وعبر استثمار أخرى جديدة، أو بتحرير شرق الفرات من المحتل الأميركي والجماعات الكردية.

هناك الكثير من الأمور التي على المواطن السوري استيعابها قبل أن تبدأ معركة تحرير سوريا الحقيقية من الإرهاب والفساد والإحتلال الذي سكنه من الداخل. من المعلوم أن الدولة السورية ليست متخاذلة وهي تسعى بشتى الوسائل للوصول إلى التعافي، ومن أهم ما قامت به هو اللجوء إلى الطاقة البديلة لإنتاج الكهرباء، والإتفاق لتصدير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها إلى لبنان، وإعادة وضع الجامعات والمدارس على السكة الصحيحة. لكن هناك أمور شتى ما تزال ترتبط بالوضع الدولي وبالخطط الأميركية للتمسك بقواعدها في سوريا والعراق، والتي قد تطيل أمد المعركة، وهذا بحد ذاته شأن آخر.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب:

عبير بسّام

-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU 




روزنامة المحور