الخميس 03 آذار , 2022 11:15

جيوبوليتيك الصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا

المحيط المباشر لروسيا.. أوكرانيا

تُعد الجغرافيا السياسية أحد أهم العناصر لتحليل سياسة أي دولة، وأحد أهم المحدّدات لاتخاذ قرارها السياسي، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي. ومن ثم، فإن عامل الجغرافيا السياسية هو ما يبقى على استمرارية توجهات أي دولة رغم تغير قيادتها السياسية، ذلك أن محدّدات الجغرافيا السياسية  تعتمد على عناصر أكثر رسوخاً. يظهر هذا الأمر في الحالة الروسية بشكل واضح حيث أجبرت الجغرافيا السياسية روسيا التاريخية على استمرارية توجهات معيّنة على امتداد حقب تاريخية متعدّدة. وعلى الرغم من التغيير الأيديولوجي بدءاً بروسيا القيصرية، مروراً بالثورة البلشفية والاتحاد السوفياتي، وانتهاء بروسيا الاتحادية، يمكن للمتابع أن يدرك استمرارية نمط معين في السياسة الروسية نابع من محددات الجغرافية السياسية التي تؤثر فيها.

وبالتالي، فإذا كان لكل دولة كبرى مسلماتها "الجغرافية الاستراتيجية"، أي الإدارة الاستراتيجية للمصالح "الجغرافيا السياسية" التي لا يمكن التنازل عنها لأنها مصيرية، فإن لروسيا الاتحادية أيضاً مسلماتها التي تندرج فيما يسمى "المحيط المباشر" أو "المحيط الآمن" كونه يشكل عماد كيان الأمن القومي الروسي، وهو يتمثل اليوم، بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، في الخط المباشر من جورجيا وأوكرانيا مروراً بتشيكيا وبولندا وحتى حدود دول بحر البلطيق.

مع تفكّك الاتحاد السوفياتي، خسرت روسيا الإتحادية دول البلطيق ودول شرق أوروبا، إضافة إلى قلب نفوذها الروحي وامتدادها الاستراتيجي، أوكرانيا. وفي حين تبقى روسيا البيضاء موالية لروسيا الاتحادية وضمن فلكها العسكري، فإن موسكو ترفض إمكانية قبول أوكرانيا أو ضمها بأي شكل من الأشكال إلى دول حلف شمال الأطلسي.

من هنا، تعتبر أوكرانيا الخاصرة الطرية لروسيا الاتحادية، وهي مثل جورجيا، إذا ما خضعت لتأثير دولة عظمى منافسة، فقد تكون منصة الانطلاق الأخطر إلى قلب روسيا الإتحادية، خصوصاً في ظل غياب أي مانع جغرافي طبيعي. يكفي النظر إلى الخريطة والمسافة الفاصلة بين كييف وموسكو لمعرفة مدى جدية القلق الروسي إزاء ما يحدث في أوكرانيا والإرادة الفولاذية التي أظهرتها روسيا الإتحادية في ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضي روسيا الإتحادية، فضلاً عن أن الشريط الفاصل بين الحدود الأوكرانية وكازاخستان عبر القوقاز يبلغ 600 كيلومتر فقط ما يسهم في خلق ثغرة أخرى لموسكو في حال خسرت سيطرتها في القوقاز.

تسمى أوكرانيا بالحافة؛ ذلك لأنها تقع على سهل فسيح. وتعتبر دولة متوسطة بالمعيار الجغرافي، حيث تتجاوز مساحتها بقليل الست مئة ألف كيلو متر مربع. وهي ثالث أكبر دول الاتحاد السوفياتي السابق، بعد روسيا ذات السبعة عشر مليون كيلو متر مربع، وكازاخستان، التي تبلغ مساحتها مليونين وسبع مئة وعشرين ألف كيلومتر، والتي تشكل ثالث أكبر دول آسيا بعد الصين والهند على التوالي.

لدى أوكرانيا حدود طولها 4566 كيلومتراً، أكبرها مع روسيا الاتحادية، بواقع 1576 كيلومتراً. كما تمتد سواحلها على طول 2782 كيلومتراً. وتقع هذه السواحل على البحر الأسود وبحر آزوف. وتعد دولة صناعية ومصدراً للمعدات التكنولوجية المدنية والعسكرية.  كما ينحدر أكثر من 40 بالمائة من سكان أوكرانيا من أصول روسية.

أوكرانيا هي دولة شقيقة لروسيا الإتحادية بالمعيارين العرقي والمذهبي. وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذكسية، وكانت مندمجة في الإمبراطورية الروسية منذ القرن السابع عشر للميلاد,

ثمة تشابهات عدة بين واقع الشرق الأوكراني والواقع القائم في روسيا البيضاء، التي تستمد من ماضيها مع سائر الروس (سكان أوكرانيا وروسيا الاتحادية) انتماءها إلى الدائرة الثقافية السلافية البيزنطية.

لا تقل أوكرانيا أهمية من وجهة نظر الاتحاد الاوروبي، فهي أكبر دولة في أوروبا خارج الاتحاد الاوروبي، واعتُبرت دائماً حافة الشرق الأوروبي ونهاية غرب أوروبا. وازدادت الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الكتلة الشرقية وحلف وارسو، ومن ثم الاتحاد السوفياتي ما وضع نهاية للحرب الباردة عام 1991.

وفي الزمن الحالي، تحتل أوكرانيا مكاناً جديداً ومهماً في رقعة الشطرنج الأوراسية، وبالتالي فهي دولة محورية في الجغرافيا السياسية، لأن وجودها ذاته كدولة مستقلة يساعد على تحويل أو تغيير موقف روسيا الاتحادية .

خسارة أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا الاتحادية باختصار، ليست خسارة جيوسياسية وحسب، بل خسارة لجزء من التاريخ والذاكرة ومكونات الهوية الروسية، والأهم أنه لا يمكن أن تتشكل أمبراطورية أوراسية بدون أوكرانيا.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور