على الرغم من الشراسة غير المسبوقة التي اتسم بها عدوان الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن سلوكه أظهر التزاما بسقوف واضحة في استهداف البنية التحتية والمدنيين، وهو ما يعكس الأثر المتراكم للردع الذي رسخته المقاومة الإسلامية خلال السنوات الماضية، لا سيما في مرحلة جبهة الإسناد.
وفي الوقت الذي لجأ فيه الكيان المؤقت إلى تنفيذ عمليات أمنية وعسكرية نوعية، امتنع بدرجة كبيرة عن اعتماد نمط القصف العشوائي الواسع الذي طبع حرب تموز / يوليو 2006. هذا الانضباط لم يكن وليد اعتبارات إنسانية، بل جاء نتيجة توازن ردعي مدروس وقواعد اشتباك عسكرية صارمة وتهديد المقاومة لمستوطناته المدنية وعدم قدرتهم على حمايتها بالأنظمة الصاروخية، كما وتأثر بعوامل متداخلة من بينها هواجس التصعيد ومخاوف الانزلاق نحو مواجهة شاملة خارجة عن السيطرة.
اتسم السلوك الاسرائيلي بمفارقة واضحة: تصعيد متدرّج ومدمّر ضد البنية القيادية والعسكرية للمقاومة، يقابله امتناع محسوب عن توسيع دائرة الاستهداف ضد المدنيين. ما يعكس تبني استراتيجية مزدوجة تهدف إلى إنهاك النواة الصلبة للمقاومة دون المساس المباشر ببيئتها الحاضنة. وقد تجلى ذلك في إنذارات القصف المسبقة واستهداف مراكز مدنية محددة ذات صلة بالمقاومة كالمؤسسات الصحية والمالية والإعلامية، من دون التوسع في ذلك، ما يدل على إدراك كيان الاحتلال الاسرائيلي للردع النسبي القائم وحساسية جبهته الداخلية، التي لم تكن لتتحمل تصعيدا مضادا على المستوى المدني، خصوصًا في ظل قدرات المقاومة التي أثبتت فاعليتها في استهداف تل أبيب والبنى التحتية الحيوية للكيان في لحظات حاسمة من الحرب.
وتظهر دينامية الصراع أن الكيان حرص على ضبط أدوات المعركة بما يتيح له إيقاع أكبر ضرر عسكري ممكن من دون الانزلاق إلى حرب إبادة شاملة قد تخلط الأوراق، وتقلب المزاج الإقليمي والدولي، وتمنح المقاومة شرعية مضاعفة في استهداف البنى المدنية والصناعية للكيان في الجليل والوسط والعمق.
اتفاق وقف إطلاق النار
استمر كيان الاحتلال في ممارسة أقصى أشكال الضغط السياسي والعسكري والنفسي ضد المقاومة وشعبها، مستعينا بترسانة متكاملة من أدوات الحرب الناعمة والصلبة لمدة شهرين، وبالدبلوماسية الأمريكية للضغط وفرض شروط وقف إطلاق النار وعلى الرغم من ذلك نجحت المقاومة مدعومة ببيئتها الحاضنة في تجاوز هذه الضغوط والتحديات المركبة.
وقد مثل انزلاق الاحتلال إلى حرب استنزاف طويلة الأمد مأزقًا استراتيجيًا مع تزايد الخسائر البشرية في القوات المتوغلة، بما أدى إلى تصاعد كلفة المعركة وتعطيل متواصل للحياة في مستوطنات الشمال، الأمر الذي انعكس سلبيًا على الجبهة الداخلية للكيان. وتفاقم هذا الضغط مع تزايد عدد قتلى جيش الاحتلال، الذي بلغ 120 ضابطا وجنديًا بحسب اعترافاته الرسمية، مع وجود خسائر إضافية مخفية تقدرها المقاومة بنحو 900 قتيل من القوات غير اليهودية، بالتوازي مع تصاعد وتيرة عمليات المقاومة في الأسبوع الأخير من الحرب، من خلال قصف تل أبيب وتدمير 6 دبابات ميركافا في مواجهة مباشرة بمنطقة شمع - البياضة. كل ذلك إضافة إلى أن سياسة الاغتيالات لم تحقق تحول جذري في الميدان بالقدر الذي كان يطمح إليه، دفع القيادة الإسرائيلية إلى إعادة تقييم خياراتها والانفتاح على مسار التفاوض.
ميدانيا، أخفق جيش الاحتلال الاسرائيلي في تحقيق تغيير جوهري على الجبهة اللبنانية خلال العملية البرية، لكنه مهد لاستحداث منطقة عازلة عبر تدمير المنازل وحرق الأراضي في الجنوب والذي كان عاملاً مهماً في خطته لليوم التالي للحرب، وعجز عن فرض سيطرة مستقرة على الأرض رغم مشاركة 5 فرق قتالية. مقابل ذلك، نجحت المقاومة في تعزيز مواقعها والحفاظ على قدراتها القتالية والصاروخية والتكيف المرن مع متغيرات الميدان. كما تهاوت رهانات الاحتلال على سياسة الاغتيالات، التي لم تحقق تحولاً جذريًا في الميدان، ما دفعه إلى التراجع خطابيًا والإيحاء بأن العملية البرية كانت "محدودة"، في تناقض واضح مع وعوده الأولى بـ "تدمير شامل" لبنية المقاومة.
مع تراكم التكاليف البشرية والنفسية والاقتصادية، تصاعدت الدعوات داخل الكيان لوقف الحرب، وأظهرت استطلاعات الرأي تشكيكا متزايدًا بجدوى التصعيد على جبهتي الشمال والجنوب، فيما عادت المعارضة السياسية إلى الواجهة مطالبة بإسقاط الحكومة. وترافق هذا التراجع مع مشاكل في الجبهة الداخلية وإدراك القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو استحالة تحقيق "النصر" العسكري الموعود، ما دفعها إلى إنهاء العملية بعد نحو شهرين والانتقال إلى الدور الأمريكي المساند للاحتلال في إدارة وقف إطلاق النار.
وقد أقر نتنياهو في خطاب وقف إطلاق النار بأن الهدف من الهدنة هو إعادة ترميم الجيش الإسرائيلي. وفي هذا السياق، زار الوسيط الأميركي بيروت بتاريخ 2024/11/19 حاملاً ورقة تدعو لبنان للقبول بالشروط الأميركية الإسرائيلية، وتقترح تعديلات على القرار 1701، في محاولة لفرض "الاستسلام" تحت ضغط المعركة، بعد إخفاق الاحتلال في تحقيق أهدافه المضمرة ميدانيا. عملت واشنطن من موقعها كطرف منحاز للكيان على إدارة مسار وقف إطلاق النار عبر أدوات ضغط متعددة على الطرفين من أجل إنجاز الاتفاق في ظل ضيق الوقت أمام إدارة بايدن وتقديرها بعدم جدوى حرب الاستنزاف على الكيان، مع تحديد مهلة أسبوع لتوقيع الاتفاق"، وبخاصة بعد الضربات النوعية التي نفذتها المقاومة في "الأحد الأسود" 2024/11/24، حيث أنجز نحو 51 عملية استهدفت العمق الإسرائيلي بما فيها تل أبيب، إلى جانب عمليات ميدانية حاسمة على الحدود، مما اضطر حكومة كيان الاحتلال الاسرائيلي إلى القبول بوقف إطلاق النار الذي بدأ سريانه فجر الأربعاء 72024/11/27.
شكل يوم "الأحد الأسود" محطة حاسمة في مسار المواجهة، حيث أثبتت المقاومة قدرتها على فرض معادلات جديدة على الأرض وتهديد العمق الإسرائيلي بطريقة غير مسبوقة. نفذت المقاومة سلسلة عمليات تكتيكية دقيقة، شملت استهدافا مكثفا لمواقع عسكرية ومستعمرات في الكيان، مع تركيز على ضرب دباباته بصواريخ موجهة، إلى جانب استخدام مسيرات انقضاضية وقذائف مدفعية متنوعة، موزعة على محاور متعددة، مع اهتمام خاص بمنطقة البياضة والخيام، واستهداف مواقع حساسة في العمق مثل قاعدة دادو قيادة المنطقة الشمالية، میشار (الاستخبارات) وغليلوت (الاستخبارات العسكرية). وأسفر الأداء الميداني عن نجاح باهر، إذ تم تدمير 8 دبابات في البياضة وحدها، وإلحاق خسائر بشرية فادحة في صفوف القوات البرية، ومنع أي تقدم لجيش الاحتلال في جميع المحاور. كما أثر استهداف مواقع القيادة والاستخبارات على قدرة الجيش الاسرائيلي على إدارة عملياته العسكرية، فيما أسهم تنويع الضربات على محاور متعددة في تشتيت جهود جيش الاحتلال وصعوبة تركيزه على جبهة واحدة.
هذا اليوم أبرز فعالية المقاومة تكتيكيا وقدرتها على استغلال نقاط ضعف الكيان، بما يُظهر تخطيطا محكما وتنسيقا عالي المستوى، ويُرسّخ صورة المقاومة كقوة قادرة على نقل المعركة إلى أعماق الأراضي المحتلة وإلحاق خسائر كبيرة بإسرائيل بطرق متنوعة. كما أسهم هذا النجاح في رفع معنويات المجاهدين وإضعاف الروح المعنوية للاحتلال، وشكل ضغطا استراتيجيًا على الكيان وأركان تحالفه، ما دفع الاحتلال إلى الاتصال بالولايات المتحدة للتوسط وتكثيف جهودها لوقف إطلاق النار، مؤكدا استمرار ثقل المقاومة العسكري والقتالي وقدرتها على التعافي والتطور بأساليب تكتيكية عالية الفعالية.
يتبع
الكاتب: غرفة التحرير