الجمعة 01 آب , 2025 01:09

من القصير إلى الجليل: قوات الرضوان وتعطيل الممرات الجيوبوليتيكية الإسرائيلية

الشهيد عماد مغنية وقوة الرضوان في حزب الله

في ظل تصاعد الاهتمام الإقليمي والدولي بمصير مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، عادت وحدة "قوات الرضوان" التابعة لحزب الله إلى واجهة المشهد الأمني والإعلامي بقوة لافتة. فقد باتت هذه القوة موضع تركيز رئيسي في الخطاب العسكري والإعلامي الإسرائيلي، كما تكررت الإشارات إليها في تقارير غربية عدة، باعتبارها تمثل حجر العثرة المركزي أمام أي محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ في المشرق العربي.

الدوافع التي دفعت إلى إنجاز هذه الدراسة تنطلق من هذا التضارب اللافت في التوصيفات التي تتناول "قوات الرضوان"؛ إذ يشير الخطاب الإعلامي العبري من جهة إلى أن هذه الوحدة "تعرّضت لضربات موجعة"، و"فقدت نصف قوتها البشرية"، و"تراجع انتشارها الميداني"، بينما تُصوَّر في الوقت نفسه على أنها "الخطر الأول على الجبهة الشمالية"، و"التهديد المباشر للعمق الإسرائيلي"، و"القوة الأكثر قدرة على اختراق الجغرافيا الإسرائيلية من داخل لبنان".

هذا التناقض الظاهري يفتح الباب أمام تساؤل منهجي: كيف يمكن لوحدة يُقال إنها تراجعت وانكمشت أن تُصنّف في آن واحد كأخطر أدوات الردع غير المتماثلة في الإقليم؟ وهل ما يجري هو توصيف واقعي للقدرات، أم تمهيد سياسي لتبرير قرارات ميدانية قادمة؟ وهل الرضوان فعلاً في حالة "تآكل عملياتي"، أم أنها تعيش مرحلة "تجميد استراتيجي" استعدادًا لصدام واسع النطاق؟

إن هذه الدراسة تسعى إلى تفكيك هذه المفارقات من خلال قراءة تحليلية للبنية العسكرية لقوة الرضوان، وتتبع تطورها العقائدي، وأثرها في الديناميات الجيوبوليتيكية للمشرق العربي. وتناقش الدراسة بأن الرضوان، بوصفها بنية هجينة ضمن منظومة المقاومة في لبنان، قد تجاوزت مفهوم "الوحدة القتالية"، لتتحول إلى فاعل جيوعسكري يعيد تشكيل موازين الردع والنفوذ في المنطقة.

كما تطرح الورقة فرضية أن قوة الرضوان لا تمثل مجرد تهديد عسكري لإسرائيل، بل تمثّل تحديًا بنيويًا لمشروع الشرق الأوسط الجديد، من خلال موقعها الاستراتيجي، وانتشارها السري، وطبيعة تكوينها القتالي المتعدد الأبعاد، ما يجعلها العقبة الأبرز أمام محاولات ضبط لبنان داخل النظام الأمني الإقليمي الجديد.

من هنا، تستند هذه الدراسة إلى تحليل عابر للتقارير الإعلامية، وتدمج بين المصادر الغربية والعبرية والعربية، لتقديم قراءة متوازنة وموثقة عن واقع "قوة الرضوان"، بعيدًا عن خطاب التضخيم أو التقليل، وذلك من خلال عدسة الجيوبوليتيك العسكري المعاصر.

النشأة والتطور العقائدي والعسكري لقوات الرضوان

شهدت البنية العسكرية لحزب الله تحولات نوعية بعد حرب تموز 2006، لم تكن مجرد إعادة تموضع، بل شكلت ولادة لجيل جديد من الوحدات القتالية ذات الطابع الاحترافي المتقدم. في هذا السياق، برزت "قوات الرضوان" كواحدة من أبرز التشكيلات القتالية داخل الحزب، وذلك في إطار تطوير استراتيجية المقاومة من الدفاع إلى الردع الهجومي الاستباقي.

سُميت هذه الوحدة باسم "الرضوان" تكريمًا للقيادي عماد مغنية (الحاج رضوان)، الذي شكّل حجر الأساس في تأسيس عقل حزب الله الاستخباري والعسكري العصري. هذه التسمية ليست رمزية فحسب، بل تحمل طابعًا تعبويًا وعمليًا، كونها تعبّر عن فكر قتالي يدين بالولاء للمحور المقاوم في المنطقة، ويتبنى نظرية "الاحتكاك الدائم" مع العدو كوسيلة لإفشال مشاريعه الإقليمية، ومن بينها ما يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد".

تُعد "قوات الرضوان" النخبة العسكرية في تشكيلات حزب الله، وهي وحدة مخصصة للعمليات النوعية داخل الأراضي المحتلة، بما في ذلك خطط التسلل والسيطرة المؤقتة على مواقع عسكرية أو مستوطنات في الجليل الأعلى. يتلقى عناصرها تدريبات متعددة المستويات، تبدأ من تقنيات القتال الليلي، مرورًا بحرب الأنفاق، وصولًا إلى الاشتباك القريب مع القوات الخاصة. وتتم هذه التدريبات في مناطق جبلية وساحلية تُحاكي جغرافيا الجليل، ما يمنحها تفوقًا طبوغرافيًا على القوات الإسرائيلية.

وبحسب تحليل لمركز الدراسات الأمنية في جامعة تل أبيب (2023)، فإن "قوات الرضوان تشكّل التحدي المركزي أمام القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، نظرًا لقدرتها على تنفيذ عمليات هجومية خاطفة داخل الأراضي الإسرائيلية من دون الاعتماد على البنية العسكرية التقليدية".

العقيدة القتالية لقوات الرضوان تقوم على مبدأ "اللامركزية الميدانية"، ما يعني أن مجموعاتها الصغيرة تمتلك صلاحيات تكتيكية مستقلة خلال الاشتباك. هذه الميزة تجعل "الرضوان" أكثر مرونة مقارنة بالقوات النظامية التي تعتمد على تسلسل قيادي جامد. ولعل هذه البنية ساعدت في صمود الحزب خلال السنوات الأخيرة في وجه ضربات جوية كثيفة نفذتها إسرائيل في سوريا ولبنان.

في السياق نفسه، أشار الخبير العسكري الأميركي أنتوني كوردسمان في دراسة صادرة عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية إلى أن:

"قوات الرضوان لا تشكّل مجرّد ميليشيا متقدمة، بل تمثّل نواة لجيل جديد من التنظيمات الهجينة القادرة على مقارعة جيوش نظامية في بيئات مركّبة".

ومن الجدير بالذكر أن "قوات الرضوان" لا تُستخدم كقوة احتكاك يومي على الحدود، وهو ما أكدته التقارير العبرية نفسها التي أشارت إلى أن من خاض اشتباكات معركة أولي البأس ٢٠٢٤ كان أغلبهم من التشكيلات التعبوية المحلية، مما يدل على أن "وحدة الرضوان" ما زال الحزب يحتفظ بها كورقة استراتيجية لبنك أهداف هام ومحدد، وليس كقوة استنزاف ميداني.

ويعزز هذا التصور ما ورد في دراسة صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (2024)، جاء فيها:

"حزب الله يدير قواته باحتراف، بحيث يحتفظ بالقوات النوعية لتوقيتات استراتيجية، وهذا يشمل قوات "الرضوان" التي لم تظهر كثافة في المعركة، بل جرى تحييدها مؤقتًا استعدادًا لمعركة كبرى".

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن "قوات الرضوان" ليست مجرد كتيبة نخبة ضمن حزب الله، بل هي التعبير العسكري الأعلى عن التحول النوعي في عقيدة المقاومة، وتمثل رأس الحربة في مواجهة مشاريع الهيمنة الإقليمية، ومن أبرزها مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يفترض بيئة ضعيفة غير قادرة على التماسك، وهو ما تنسفه وجوديًا هذه الوحدة بما تمتلكه من فعالية قتالية عالية، وانتشار سري، وانضباط تنظيمي صارم.

الحرب المستمرة – قوات الرضوان في مواجهة الردع الإسرائيلي

منذ انتهاء حرب تموز/يوليو 2006، دخلت معادلة الردع بين حزب الله و"إسرائيل" في مرحلة جديدة من التعقيد، حيث بات الطرفان يديران نزاعًا منخفض الحدة قائمًا على "الردع المتبادل" دون الانزلاق إلى حرب شاملة. غير أن تصاعد العمليات على الجبهة الشمالية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تبعه من حملات إسرائيلية إعلامية حول تراجع قوة "الرضوان"، يكشف عن محاولة متعمّدة لإعادة صياغة المشهد النفسي، أكثر من كونه توصيفًا واقعيًا ميدانيًا.

ففي سلسلة تقارير نشرتها صحيفتا يديعوت أحرونوت ومعاريف خلال شهري يونيو ويوليو 2025، جرى تصوير وحدة "الرضوان" على أنها تعاني تآكلًا في بنيتها القتالية والبشرية، حيث أشار ضباط في القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي إلى أن عدد عناصر الوحدة انخفض من نحو 6000 مقاتل إلى أقل من 3000، وأن البنية اللوجستية على الخطوط الأمامية قد تعطلت بشكل كبير. ومع ذلك، فإن القراءة التحليلية لهذه الادعاءات تكشف عن فجوة بين الرواية الاستخباراتية الإسرائيلية وبين الوقائع الميدانية.

أول ما يثير الريبة هو الإقرار الإسرائيلي بأن من خاض الاشتباكات الحدودية خلال الأشهر الماضية لم يكن من ضمن قوات "الرضوان"، بل تشكيلات محلية اغلبها من التعبئة. وهذا ينسف الادعاء بتآكل القوة البشرية، إذ لو كانت فعلاً قد تراجعت أو تضرّرت كما يُروّج، لما كانت تؤرق الكيان المؤقت ليل نهار ويجعلها مادته الأولى في إعلامه العسكري والسياسي

حيث نقل تقرير لمعهد الدراسات القومية الإسرائيلية أن:

"التكتيك المعتمد من قبل حزب الله يعتمد على حجب نخبه العسكرية عن المعارك اليومية، وهذا لا يشير إلى ضعف، بل إلى مستوى متقدّم من ضبط النفس الاستراتيجي".

تاريخيًا، استُخدمت تقارير "تهشيم العدو" كأداة دعائية لتهيئة الجمهور الإسرائيلي لعمل عسكري استباقي. تشير دراسات عسكرية غربية إلى أن هذا الأسلوب ليس جديدًا، بل طُبّق أيضًا قبيل اجتياح 1982، عندما صُوّرت منظمة التحرير الفلسطينية على أنها تنهار، ثم تبيّن أن ذلك لم يكن دقيقًا ميدانيًا.

الأكثر دلالة في التقارير العبرية الحديثة، هو التناقض بين الزعم بتراجع قوة "الرضوان"، وبين وصفها بأنها ما زالت تُعدّ "أكثر تهديد مباشر للعمق الإسرائيلي"، كما ورد في تحليل الباحث الإسرائيلي إيهود يعاري في مجلة معهد القدس للدراسات الاستراتيجية والأمنية، حيث قال:

"الرضوان ليست مجرد وحدة اقتحام، بل مشروع عملياتي استراتيجي، يتضمن خطط اختراق، قطع خطوط الإمداد، والسيطرة على بلدات في الجليل الأعلى".

كما لا يمكن تجاهل أن العودة التدريجية الخجولة لسكان مستوطنات الجليل—حيث تشير التقديرات إلى عودة 74% منهم وفق ما أوردته معاريف- وإن دل على هدوء نسبي، لكنه لا يعكس بالضرورة تراجع تهديد "الرضوان"، بل يعكس خوفا من إعادة تموضع تكتيكي وانتظار انفجار أكبر محتمل.

وفي هذا السياق، تشير مجموعة الأزمات الدولية إلى أن:

"الوحدة لم تُستنزف فعليًا، بل أُعيد نشرها بذكاء، كاحتياطي استراتيجي، في ظل التصعيد المرحلي الممتد منذ 2023".

تحليل التناقض بين "الاستنزاف" و"التهديد الاستراتيجي" يكشف أن التقارير الإسرائيلية لا تهدف لتوصيف الواقع، بل لتبرير قرارٍ محتمل بتوسيع الهجوم على لبنان، أو على الأقل لتهيئة الرأي العام لمعادلة ردع جديدة.

في المحصلة، يمكن القول إن "قوات الرضوان" لا تُستخدم ميدانيًا إلا عند الضرورة القصوى، ما يؤكد أنها ما زالت تمثّل القوة الاحتياطية الهجومية الأهم ضمن بنية حزب الله، خلافًا للسردية التي تروّج لتآكلها. وبالتالي، فإنها تظل عاملًا معطّلًا فعليًا لأي هندسة أمنية ترغب "إسرائيل" بفرضها ضمن مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، القائم على إخضاع الجبهات الشمالية دون كلفة استراتيجية.

قوات الرضوان والبعد الإقليمي – شوكة في خاصرة مشاريع الشرق الأوسط الجديد

منذ مطلع الألفية الجديدة، تصاعد الحديث الغربي والأميركي تحديدًا حول ضرورة إعادة هيكلة المنطقة العربية ضمن مشروع يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد"، والذي طرحته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس سنة 2006 في خضم حرب تموز بين حزب الله و"إسرائيل". هذا المشروع الذي ارتكز على فرض أنظمة سياسية جديدة، وتفكيك شبكات المقاومة، اصطدم منذ بداياته بواقع غير قابل للقولبة الأمنية الغربية، كان أبرز تعبيراته ظهور قوة ميدانية منظمة وفعالة على الأرض تُعرف بـ"قوات الرضوان".

لم يكن التحدي الذي فرضته قوات الرضوان أمنيًا فقط، بل عقائديًا واستراتيجيًا؛ فهي تُجسّد بنية عسكرية هجينة تتفوق على منطق الدولة والميليشيا في آنٍ معًا، ما جعل منها نموذجًا فريدًا لا تستطيع مشاريع الضبط الغربية التنبؤ بتصرفاته أو محاصرته ضمن أُطر كلاسيكية. وكما ورد في تقرير لمؤسسة RAND Corporation الأميركية:

"تمثل قوة الرضوان النموذج الأمثل للتهديد الهجين: لا مركزية، مدفوعة بأيديولوجيا، ومندمجة إقليميًا".

في السياق الإقليمي، امتد حضور قوات الرضوان إلى ما هو أبعد من الجغرافيا اللبنانية. فقد شارك عناصرها في معارك نوعية على الأراضي السورية، حيث كُلفوا بمهام حساسة ضمن الحاضنة العسكرية لمحور المقاومة، لا سيما في القصير والقلمون وريف حلب الجنوبي. هذا التمدد لا يعكس فقط مرونة انتشار، بل يعكس أيضًا تأصيلًا لفكرة العمق الاستراتيجي الذي يناقض فلسفة "الأقلمة الأمنية" التي تسعى واشنطن وتل أبيب لترسيخها.

وقد حذّرت صحيفة Foreign Policy الأميركية من أن:

"كلما ركزت إسرائيل على غزة أو الضفة الغربية، كلما عمّقت قوة الرضوان التابعة لحزب الله انتشارها العملياتي من نهر الليطاني إلى الحدود السورية".

تؤكد مصادر استخباراتية غربية أن انتشار قوات الرضوان في مناطق محمية طبيعيًا شمالي الليطاني (كما أشارت صحيفة معاريف) يعكس تحضيرًا محكمًا لساعة المواجهة، وليس فقط دفاعًا سلبياً. فالحزب، وفق تحليل مجموعة ستراتفور، "يسعى إلى بناء قدرة هجومية رادعة، قائمة على شبكات صاروخية قصيرة المدى مموهة، تتيح له المبادأة والتصعيد وفق شروطه".

وهنا يبرز التهديد الحقيقي لقوة الرضوان: إنها لا تشكّل عقبة عسكرية تكتيكية فقط، بل إنها تُفشل جوهر فلسفة "السلام الأمريكي" الذي يستند إلى نزع مصادر القوة المستقلة عن الدولة. أي أن "الرضوان"، كامتداد لعقيدة حزب الله، يمثل البنية العسكرية التي لا يمكن احتواؤها ضمن أنظمة التسوية التقليدية، لأنها لا تنطلق من سلطة مركزية قابلة للتفاوض بل من عقيدة مرتبطة بفكرة المقاومة الشاملة.

في ضوء ذلك، تؤكد دراسة صادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية أن:

"ما يعطل الشرق الأوسط الجديد ليس فقط تمرد الأنظمة التقليدية، بل وجود بُنى مثل "الرضوان"، تُجسد فكرة الهجوم الوقائي خارج منطق الدولة، وتحرم الخصم من توقع شكل المعركة أو توقيتها".

إن بقاء "الرضوان" بعيدًا عن الاشتباك المباشر لا يعكس انكفاء، بل تأهبًا وتكتيكًا واعيًا. وهي ليست ورقة ضغط آنية فحسب، بل ورقة استراتيجية قابلة للتفعيل في أي لحظة، وتُعدّل هندسة الإقليم بمجرد وجودها، حتى دون استخدام.

في النهاية، لا يمكن لأي مشروع إقليمي أن يكتمل في المشرق العربي طالما ظلت نماذج "الرضوان" قائمة بوصفها "التهديد الذي لا يمكن اجتثاثه". إذ أنها تعطل ليس فقط آلة الحرب الإسرائيلية، بل تعرقل المعادلات السياسية والأمنية التي يراد فرضها تحت يافطة "التطبيع والاستقرار". إن "قوات الرضوان" بهذا المعنى، ليست وحدةً عسكرية فقط، بل بنية تفكيكية صلبة لأي هندسة استعمارية جديدة في الشرق.

الحرب القادمة – سيناريوهات الردع أو المواجهة مع قوات الرضوان

في ظل التوتر المستمر على الحدود اللبنانية الفلسطينية، ومع تصاعد الخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي حول "تهديدات الرضوان"، تتزايد احتمالات الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، أو على الأقل تطورات ميدانية كبيرة تتجاوز حدود "الاحتكاك المدروس". وتشير أغلب القراءات الاستراتيجية إلى أن أي حرب مقبلة في الشمال لن تكون تقليدية، لا في مسرحها ولا في أدواتها، خصوصًا مع تموضع "قوات الرضوان" كمركز ثقل عملياتي في المعادلة.

تُحدّد مراكز التفكير العسكرية في "إسرائيل" ثلاثة سيناريوهات رئيسية لاحتمالات التصعيد مع حزب الله، تتصدرها "مواجهة محدودة مع محاولة توغل لقوات الرضوان"، و"حرب واسعة متعددة الجبهات"، و"ضربات وقائية استباقية على منشآت وقيادات". ورغم تفاوت تلك السيناريوهات، فإن القاسم المشترك بينها هو أن "الرضوان" تمثّل العنصر الأكثر قلقًا في الحسابات الإسرائيلية، بحسب تقرير حديث لمعهد أبحاث الأمن القومي:

"أي حرب مقبلة لن تندلع على خلفية صواريخ فقط، بل في قلبها هواجس اختراق بري من قبل قوة "الرضوان" التي باتت تؤمن بقدرتها على تنفيذ عمليات نوعية داخل الجليل".

المفارقة التي تؤرق صناع القرار الإسرائيلي أن هذه الوحدة، ورغم نأيها الظاهري عن الخطوط الأمامية، فإنها تتجهز وتراقب وتدرس بيئة المعركة بتفاصيلها. وتشير تقارير مركز علما الإسرائيلي إلى أن الجيش الإسرائيلي "يتعامل بجدية مع سيناريو قد تُنفذ فيه "الرضوان" عملية خاطفة لاختطاف جنود أو السيطرة على نقطة حدودية حساسة" — وهو سيناريو ليس نظريًا، بل تدربت عليه القوة منذ سنوات.

وبحسب تقرير لمجلة Jane’s Defence Weeklyفإن قوة "الرضوان" لا تجهز نفسها لصد عدوان فحسب، بل لتحرير أرض في حال اندلاع المواجهة، مستفيدة من التضاريس الوعرة للجنوب اللبناني ومن شبكة أنفاق ومخابئ وتجهيزات خلوية لا تعتمد على بنية تحتية ثابتة، مما يجعل استهدافها بواسطة الطيران صعبًا.

أما في حال لجوء "إسرائيل" إلى ضربة استباقية تستهدف مقرات وقيادات "الرضوان"، فإن السيناريو البديل سيكون انفجارًا واسعًا يُدخل الجبهة الشمالية في حرب طويلة الأمد. وتشير تقديرات مجموعة الأزمات الدولية إلى أن مثل هذه الخطوة قد "تحوّل المعركة إلى مواجهة إقليمية تشمل سوريا والعراق واليمن وحتى إيران، وربما تؤدي إلى تعطيل الملاحة في المتوسط والممرات المائية بشكل كامل".

على الجانب المقابل، تبدي "قوات الرضوان" مرونة تكتيكية عالية، كما أن حزب الله اختبر خلال السنوات الماضية أدوات "الرد المتدرج"، عبر إطلاق صواريخ غير موجهة، ثم صواريخ دقيقة، ثم طائرات مسيرة دون الانزلاق إلى اشتباك شامل. لكن هذه السياسة مرهونة بخطوط حمراء، أبرزها استهداف شخصيات قيادية أو تهديد مباشر لبنية القوة.

إن نقطة التفوق لدى "الرضوان" ليست فقط في القدرة على تنفيذ "ضربة مفاجئة"، بل في أنها تستطيع الصمود طويلاً على الأرض. فهي ليست وحدة تدخل سريع تُباغت ثم تنسحب، بل بنية مقاتلة مهيأة للحرب داخل أرض معادية، ما يجعل الجبهة الداخلية الإسرائيلية نفسها عرضة لضغط مزدوج: نفسي وعسكري.

في خلاصة السيناريوهات، تبدو "قوات الرضوان" بمثابة عامل غير محسوب تقليديًا في معادلات الردع – وحدة مرنة، صامتة، لكنها مهيأة للتفعيل بمجرد كسر التوازن. وهذا يجعل من فكرة الحرب مع حزب الله ليست مسألة "إذا"، بل "متى" و"كيف"؛ والسؤال الأخطر: هل تستطيع "إسرائيل" تحمّل تبعات فتح هذه الجبهة؟

تمثل "قوات الرضوان" اليوم أكثر من مجرد وحدة عسكرية ضمن هيكلية حزب الله؛ فهي تشكّل تجسيدًا لنقلة نوعية في مفهوم المقاومة من الدفاع المحلي إلى التهديد الاستراتيجي العابر للحدود. ومن خلال استعراض نشأتها وتطورها، وتحليل موقعها في المشهد الإقليمي، وقراءة سيناريوهات المواجهة المحتملة، يتبيّن أن "الرضوان" ليست مجرد "تحدٍ أمني" بالنسبة لإسرائيل، بل عائق بنيوي حقيقي أمام إمكانية تطبيق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يفترض شرقًا خاليًا من البؤر العسكرية الرادعة وغير المنضوية في النظام الإقليمي الذي ترعاه الولايات المتحدة.

لقد كشفت التقارير الغربية والإسرائيلية، رغم ادعاءاتها بتراجع فعالية "الرضوان"، عن قلق عميق من قدرتها على تنفيذ عمليات نوعية داخل العمق الإسرائيلي، الأمر الذي يُفقد "إسرائيل" امتياز المبادأة والتفوق في أي مواجهة مقبلة. ومن ناحية أخرى، فإن حرص حزب الله على عدم استخدام هذه القوة في الاشتباكات اليومية يؤكد قيمتها الاستراتيجية العالية، ويشير إلى أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد.

كما أن "الرضوان"، بوصفها قوة مدربة على الحروب المركبة، تمثل كابحًا عمليًا لمشاريع إعادة الهندسة الأمنية والسياسية في المنطقة، خصوصًا تلك التي تقوم على نزع السلاح غير الرسمي وفرض أشكال الحكم المركزي الخاضع. فهي تختبر القدرة على بناء بنى عسكرية موازية داخل الدولة، دون إسقاط الدولة، ودون الانخراط في الفوضى، وهو ما يجعلها نموذجًا فريدًا يصعب تكراره أو استيعابه ضمن النماذج الغربية لإدارة الصراع.

التوصيات:

للباحثين الأكاديميين:

ضرورة التوسّع في دراسة البُنى العسكرية الهجينة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها "قوات الرضوان"، بوصفها أدوات غير تقليدية لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، وهو مجال بحث لا يزال قيد التهميش في الأدبيات الغربية والعربية على حد سواء.

لصنّاع القرار العرب:

إدراك أن موازين الردع لا تُبنى فقط بالجيوش التقليدية، بل من خلال نماذج مرنة ومجتمعية كقوة "الرضوان"، ما يستدعي إعادة النظر في استراتيجيات الأمن القومي العربي بعيدًا عن الرهان المطلق على التحالفات الدولية.

للدراسات الأمنية الغربية:

 فهم أن تجاهل مثل هذه البنى لا يُقلّل من خطرها، بل يزيد من فاعليتها، لأنها تعمل خارج منظومات الرصد التقليدية، وهو ما يستوجب تفكير عقلاني ودبلوماسية مرنة بعيدة عن التهديد والوعيد تتعامل مع "القوة الغامضة" بوصفها فاعلًا حقيقيًا في تشكيل السياسة الإقليمية.

للمؤسسات البحثية المستقلة:

المبادرة إلى إطلاق دراسات حالة متعمقة حول هذه الظاهرة وتفاعلاتها مع محيطها باعتبارها ورقة رابحة في تحولات الأمن الإقليمي، وليس مجرد ذراع لحزب سياسي لبناني.

في الختام، تثبت "قوات الرضوان" أنها الورقة التي لم تُفعّل بعد بالكامل، لكنها قادرة في لحظة مفصلية على قلب طاولة مشروع "الشرق الأوسط الجديد" برمّته، ليس من خلال فتح حرب كبرى فقط، بل بمجرد استمرار وجودها في الميدان كمعضلة لا حلّ تقليدي لها.


الكاتب: د.عبدالله بدوي




روزنامة المحور