بعد عقود من التجييش والتحريض على البرنامج النووي السلمي الإيراني ومهاجمته سراً واغتيال علمائه بعمليات أمنية، شن كيان الاحتلال عدواناً موصوفاً على إيران لتحقيق الهدف نفسه. غير أن إسرائيل التي اعتادت على استخدام الحرب الهمجية كأداة لفرض ما تريد، تدرك، كما الولايات المتحدة، أن الخيار العسكري لن يجني ثماراً في هذا الملف تحديداً، والشواهد على ذلك كثيرة.
الهدف الإسرائيلي المعلن، تدمير البرنامج النووي الإيراني. إلا أن ما تواجهه إسرائيل اليوم يتجاوز مجرد منشآت يمكن استهدافها بقنابل ذكية، إلى منظومة صناعية علمية وتقنية نمت وتوسعت لعقود. إيران لا تخصب اليورانيوم في منشأة واحدة، ولا تعتمد على بضعة علماء. هي تمتلك اليوم شبكة واسعة من المواقع، بعضها مكشوف وبعضها شديد التحصين تحت الأرض، كما في فوردو. وتملك كذلك آلاف أجهزة الطرد المركزي المتطورة، ومعرفة تقنية لا يمكن محوها بالقوة، وآلاف الخبراء والعلماء النوويين المدربين، وهذا يعني قدرتها على إعادة بناء قدراتها بسرعة بعد الهجوم، طالما أنها مصممة على ذلك.
إسرائيل، التي اعتمدت تقليدياً على الضربات الاستباقية كما حصل في العراق عام 1981 وفي سوريا عام 2007، تجد نفسها أمام واقع مختلف تماماً في إيران. ففي حين كانت منشأة تموز العراقية أو الكُبر السورية أهدافاً مفردة ومعزولة، فإن البنية النووية الإيرانية باتت موزعة، محمية، ومتكاملة، إلى حدّ يجعل تدميرها بالكامل مهمة شبه مستحيلة من الناحية العسكرية، إلا بثمن باهظ وتبعات إقليمية واسعة.
يضاف إلى ذلك أن إيران لطالما أعلنت أن برنامجها النووي سلمي، وتحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومنذ اتفاق 2015 (الذي انسحبت منه الولايات المتحدة عام 2018)، أبدت إيران التزاماً واسعاً بعمليات التفتيش، قبل أن تبدأ تقليص التزاماتها رداً على العقوبات واغتيال علمائها. وفي كل مرة أبدت طهران استعدادها للعودة إلى طاولة التفاوض، كان الطرف الأميركي يختار المماطلة أو التصعيد، في حين استُخدمت المفاوضات كغطاء لشنّ عدوان إسرائيلي مفاجئ.
المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، أشار في أكثر من مناسبة إلى أن المعرفة النووية التي تمتلكها إيران لا يمكن التراجع عنها، وأن أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، التي تعمل بمستويات تخصيب مرتفعة، باتت واقعاً قائماً. وفي تقريره الأخير، حذّر من أن التصعيد العسكري ضد إيران قد يُنهي أي إمكانية للرقابة أو العودة إلى الاتفاق.
وعلى الرغم من تأكيد طهران المستمر على أنها لم تتخذ قراراً ببناء قنبلة نووية. بل إن تقارير استخباراتية أميركية، من بينها تقرير أجهزة الاستخبارات الوطنية الأميركية (NIE) عام 2007، أكدت أن إيران أوقفت أية أنشطة تتعلق بتصميم السلاح منذ عام 2003، وركّزت على التكنولوجيا النووية المدنية، فإن الشكوك الإسرائيلية والغربية لم تتوقف، وتحوّلت إلى ما يشبه العقيدة الأمنية في تل أبيب. ومعها، أصبح خيار الضربة العسكرية حلاً مطروحاً دائماً، وإن لم يُنفذ فعلياً. لكن الحقيقة أن هذا الخيار، اليوم، أقل قابلية للتنفيذ من أي وقت مضى. فإيران، بعد كل استهداف، كانت تعيد بناء منشآتها بسرعة، بل تطورها وتضيف لها مزيداً من الدفاعات. ومع كل اغتيال، يبرز علماء جدد. أما القدرات الصاروخية الإيرانية، فهي تعني أن أي حرب لن تبقى في سماء أصفهان أو نطنز، بل ستطال مدناً وقواعد أميركية وإسرائيلية في المنطقة، هو ما يحصل بالفعل منذ 4 أيام، حيث يشهد الكيان دماراً لم يشهد له مثيلاً منذ قيامه عام 1948.
في حين تؤكد النماذج التاريخية محدودية الرهان على القوة لتقويض البرامج النووية. العراق، الذي قُصفت منشآته في تموز 1981، أعاد خلال التسعينيات جزءاً كبيراً من بنيته العلمية، رغم العقوبات والحصار، وكان قريباً من تطوير قنبلة لولا اجتياح الكويت وتفكيك البرنامج بالقوة بعد حرب 2003. أما ليبيا، فقد تخلّت طوعاً عن برنامجها النووي في 2003، وقدّمت كل ما لديها من معدات ووثائق، ثم انتهى نظام معمر القذافي بعد أقل من عقد، في عملية عسكرية قادها حلف الناتو عام 2011. كلا النموذجين ترك أثراً عميقاً في التفكير الاستراتيجي الإيراني، ودفع طهران إلى رفض أي تفكيك شامل، وتأكيد حقها بالاستفادة من نووي سلمي.
الدول الأخرى التي بدأت برامج نووية سلمية ثم أُجبرت على التراجع عنها تشمل كوريا الجنوبية وتايوان في السبعينيات، بفعل ضغوط أميركية مباشرة. وجنوب إفريقيا، التي امتلكت فعلاً عدداً من الرؤوس النووية، أجبرت على التخلي عنها. كلها دروس ترى فيها إيران شواهد واضحة عن مصير تلك الدول التي انصاعت إلى الرغبات والضغوط الاميركية.
وبالتالي، فإن الأمر بالنسبة لإيران، لا يتعلق بقرار قنبلة أو لا، بل بقدرة الدولة على حماية سيادتها وحقوقها التقنية. ومع تصاعد الدعوات داخل إيران لتعديل العقيدة النووية، رداً على الهجمات الأخيرة، لا تزال القيادة الإيرانية تصر على عدم السعي إلى امتلاك سلاح نووي، لكنها في المقابل، تُعلن بوضوح أنها لن تتنازل عن حقها في التخصيب، ولن تسمح بفرض معادلات الردع عليها من الخارج.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على انطلاق المحاولات الإسرائيلية لعرقلة البرنامج الإيراني، بات واضحاً أن خيار "الضربة القاضية" لم يعد ممكناً. فإيران رسّخت قدراتها، وراكمت المعرفة، ووسّعت منشآتها، وتعلّمت من تجارب الآخرين. أي محاولة عسكرية جديدة لن تزيل البرنامج، بل قد تكون الشرارة التي تدفعه نحو التحول الكامل إلى برنامج ردعي، في حال قرر الامام السيد علي الخامنئي ذلك.
إن استمرار السياسات الحالية، القائمة على الاغتيالات والهجمات والتخريب والمماطلة الدبلوماسية، لم يوقف إيران، بل صبّ في مصلحة دعاة الاستقلال التام عن الوكالة الدولية والمنظومة الغربية. ومن هنا، فإن الإصرار على نهج القوة لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة: إيران أقرب اليوم من أي وقت مضى إلى عتبة الدولة النووية، من دون أن تتخذ القرار بتجاوزها.
والسؤال الحقيقي لم يعد إن كانت إسرائيل ستضرب، بل ماذا ستفعل بعد أن تكتشف أن الضربة، حتى لو نُفّذت، لم ولن توقف عقارب ساعة التخصيب في طهران.