الخميس 12 حزيران , 2025 02:22

العراق يتجه شرقاً: تعاون متصاعد مع روسيا والصين

العراق يعقد اتفاقيات مع روسيا والصين

في الأشهر الأخيرة، برزت مؤشرات متزايدة على توجه العراق نحو توقيع اتفاقات تعاون نووي مع روسيا والصين، في إطار سعيه لإطلاق برنامج طاقة نووية مدنية يخدم احتياجاته التنموية المتزايدة. فقد بدأت بغداد بالفعل محادثات رسمية مع موسكو وبكين بشأن بناء مفاعلات نووية صغيرة، وهذا ما أعلن عنه رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية نعيم العبودي في 1 حزيران 2025. وقد تم توقيع مذكرات تفاهم مع شركات حكومية صينية وروسية. وتأتي هذه الخطوة في ظل دعم من أطراف سياسية في الحكومة العراقية ترى في التوجه شرقاً بديلاً حقيقياً. هذا التوجه لا ينبع فقط من الحاجة التقنية أو الاقتصادية، بل يتصل برؤية استراتيجية أوسع تعتمدها الحكومة العراقية، تقوم على تنويع الشراكات الدولية والتحرر من الإملاءات الأميركية التي كبّلت مشاريع العراق الحيوية، لا سيما في قطاع الطاقة. فلماذا يسير العراق حالياً نحو هذه الاتفاقيات؟

فشل الغرب في بناء العراق العلمي

منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، لم تنجح واشنطن في بناء بنية تحتية علمية أو نووية آمنة ومستقرة، بل على العكس، ساهمت في تعطيل مؤسسات البحث العلمي والجامعات، وفرضت قيوداً سياسية وأمنية على تطوير أي برامج ذات طابع استراتيجي، خصوصاً في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.

اليوم، وبعد عقدين يسعى العراق إلى استعادة موقعه كدولة ذات قدرات، عبر بناء منظومة طاقة حديثة تخدم احتياجاته السكانية والصناعية. وفي هذا الإطار، لا يوجد ما يمنع أن يتعاون مع الصين أو روسيا أو حتى إيران، طالما أن هذا التعاون يتم تحت مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تراقب الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

التحرر من الهيمنة الغربية عبر تنويع الشركاء

ينظر الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، بعين الريبة إلى توجّه العراق نحو الصين وروسيا في مجال تطوير الطاقة النووية، ويقدّمه على أنه تهديد محتمل للاستقرار أو باب خلفي لإيران ففي مقال نشره "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، يزعم الباحث مايكل نايتس أن التكنولوجيا النووية التي قد يحصل عليها العراق ستُهرّب إلى إيران عبر الحشد الشعبي، ويصف ذلك بأنه تهديد مباشر للسلم الدولي. غير أن هذا الخطاب يخفي حقيقة أن واشنطن ترى في هذا التوجّه تفلّتاً من قبضتها وهيمنتها على القرار العراقي.

 الانخراط في تحالفات إقليمية ودولية جديدة

التحول العراقي لا يأتي بمعزل عن تحولات أوسع في المنطقة، إذ تنزع عدة دول، إلى إقامة شراكات طويلة الأمد مع روسيا والصين، في مجالات الطاقة، البنية التحتية، الاتصالات، والدفاع. وبالتالي، فإن العراق، بانخراطه في هذه المسارات، يعزز موقعه ضمن توازنات إقليمية جديدة تسعى إلى كسر الاحتكار الغربي للقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة.

 تجاوز منظومة العقوبات الغربية

يشكل التعاون مع موسكو وبكين وسيلة واقعية لتجاوز القيود الغربية، لا سيما تلك المفروضة على أطراف عراقية فاعلة. فالولايات المتحدة تمارس منذ سنوات سياسة العقوبات والعزل تجاه فصائل وقوى تشكّل مكوّناً أساسياً من الدولة العراقية، ما جعل من الصين وروسيا منفذاً بديلاً.

 بناء قدرة تكنولوجية مستقلة

الأهم من ذلك، أن العراق لا يبحث فقط عن شراكة مالية أو تجارية، بل عن تطوير قدرة نووية مدنية مستقلة. وهو بذلك يتجه لبناء بنية تحتية للطاقة، تمكّنه من سدّ احتياجاته المستقبلية خصوصا في مجال الكهرباء.

نظرة من الخارج

يرى المحلل الروسي بوريس دولغوف، من مركز الدراسات العربية والإسلامية في روسيا، أن العراق "يتجه بوضوح نحو تعميق علاقاته الاقتصادية مع الصين"، مضيفاً أن "بكين تستثمر بدهاء في الفجوة التي خلّفها التراجع الغربي، وتقدم نموذجاً مختلفاً للشراكة، يركّز على المصالح الاقتصادية دون تدخلات سياسية مباشرة". وفي السياق نفسه، يلفت مراقبون إلى أن بغداد لم تقطع علاقتها بالغرب، لكنها باتت تعتمد سياسة التوازن بين القوى الكبرى، وتعزّز شراكاتها مع الصين وروسيا في ظل تقلبات إقليمية كبيرة، خاصة بعد التغيرات التي طرأت على الساحة السورية.

لا يمكن النظر إلى التوجه العراقي نحو روسيا والصين كمغامرة غير محسوبة، بل هو امتداد لمسار انتهجته دول أخرى في المنطقة ونجحت من خلاله في تعزيز استقلالها. إيران، على سبيل المثال، استطاعت رغم العقوبات الغربية أن تطوّر منظومة علمية ونووية مدنية بالتعاون مع موسكو وبكين وكان آخرها الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في شهر نيسان من هذا العام حيث وصفه مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون الدولية كاظم غريب آبادي "بالمثمر والبناء". وفي هذا السياق، فإن الخطاب الأميركي الذي يصوّر أي تعاون عراقي في المجال النووي مع روسيا أو الصين كخطر على "الأمن الدولي"، يتجاهل أن البرنامج العراقي الحالي مدني بالكامل ويخضع لرقابة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصاً بعد توقيع العراق على البروتوكول الإضافي العام 2012. بل إن هذه الهواجس تبدو انتقائية، إذ تغضّ واشنطن الطرف عن ترسانة "إسرائيل" النووية التي لا تخضع لأي رقابة دولية.

جوهر الاعتراض الأميركي لا يتعلّق بالأمن، بل بالمصالح: واشنطن تخشى فقدان نفوذها في العراق، بوابة المنطقة الاستراتيجية نحو إيران والخليج، وتدرك أن تنامي الشراكة مع الشرق يهدد احتكار شركاتها للسوق والطاقة. والأخطر من ذلك، أن هذه الشراكات تعزز نشوء محور إقليمي جديد، يملك الموارد والخبرة والتعاون السياسي والعسكري، ما يحدّ من قدرة الولايات المتحدة على فرض أجنداتها في المنطقة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور