في كل مرة تتعهد فيها "إسرائيل" بفتح المعابر، نسمع لغة الأرقام: عشرات الشاحنات ستدخل اليوم. لكن الواقع يعكس شيئًا آخر، أكثر فظاعة وأكثر تعبيرًا عن طبيعة الاحتلال. خمس شاحنات فقط دخلت قطاع غزة المحاصر، بينما ينتظر أكثر من مليون طفل وعائلة الطعام والماء والدواء. هذه ليست مجرد مفارقة لوجستية، بل سياسة مدروسة تندرج ضمن سياق أطول من استخدام الجوع كسلاح، ومن الإصرار على إخضاع مجتمع بأكمله عبر العقاب الجماعي.
في الظروف الطبيعية، يمكن لهذه الأخبار أن تُعتبر إخفاقًا بيروقراطيًا أو قصورًا في التنسيق. لكن في حالة غزة، لا شيء طبيعي. "إسرائيل" لا تخفي نواياها، والغرب الرسمي لا يبدي سوى قلق لفظي مصحوب بتمويل مقيّد أو مشروط. أما الصحافة الغربية، فهي في معظمها منشغلة في حساب عدد الرهائن المحرّرين مقابل تجاهل الأطفال الذين يموتون جوعًا، أو يصابون بسوء تغذية دائم.
إن المأساة في غزة لم تعد "أزمة إنسانية" كما يحلو لوكالات الأمم المتحدة أن تصفها. ما يجري هو حصار ممنهج، ومدروس، ومغطى سياسيًا من قِبل دول تدّعي احترام حقوق الإنسان. الإغاثة أصبحت خاضعة لمعادلة الضغط السياسي. عشرات الآلاف من الأطنان من الغذاء والمساعدات الطبية مجمّدة على الحدود، ممنوعة من الدخول، كأنها رهائن أيضًا، يُساوَم بها في سوق المصالح السياسية الدولية.
القتل بالتجويع: تكتيك استعماري قديم
ليست هذه المرة الأولى التي يُستخدم فيها الحصار كأداة استعمارية. فالتاريخ حافل بحملات التجويع الجماعية: من مجاعة البنغال في 1943 التي ارتكبها الاحتلال البريطاني، إلى الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينات، وصولًا إلى التواطؤ الأميركي السعودي في حرب اليمن. دائمًا ما يُغلّف الجوع بلغة سياسية ناعمة: "عقوبات"، "قيود"، "إجراءات أمنية". لكن في جوهرها، هي أداة قتل بطيء، تخاطب الجسد البشري مباشرة، وتفتك به دون إطلاق رصاصة.
ما تفعله "إسرائيل" في غزة اليوم يتجاوز الجريمة الأخلاقية، ليدخل في صلب ما يُعرَّف بجرائم الحرب وفقًا لاتفاقيات جنيف. ليس فقط لأنها تمنع المساعدات، بل لأنها تفعل ذلك وهي تعلم حجم الكارثة. المنظمات الدولية، ومن بينها "أونروا"، باتت تتحدث بوضوح عن "المجاعة" و"الانهيار الكامل". ومع ذلك، لا تزال "إسرائيل" تسيطر على دخول الشاحنات وكأنها تتحكم في رافعة تصرف "الرحمة" حسب مزاجها السياسي.
الأمم المتحدة والعجز المؤسسي
المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أعلن أن 100 شاحنة حصلت على الموافقة، لكن 5 فقط دخلت. السؤال هنا: ماذا فعلت الأمم المتحدة حيال هذا التلاعب؟ لا شيء سوى المؤتمرات الصحفية. الأمم المتحدة، كما هي اليوم، تكتفي بوصف المجزرة دون حتى التلميح للمسؤولية السياسية أو القانونية للمجرم. تُظهر بياناتها أن غزة بحاجة إلى 500 شاحنة يوميًا، ومع ذلك، تكتفي بمباركة دخول خمس شاحنات كأنها إنجاز.
هذه ليست بيروقراطية عاجزة، بل نظام دولي قرر أن لا يُحرّك ساكنًا طالما أن الضحايا فلسطينيون. وفي ظل هذه البنية المختلة، تصبح التصريحات القوية من المفوض العام لأونروا، فيليب لازاريني، استثناءً نادرًا. لازاريني قالها بوضوح: "إسرائيل تستغل الجوع كسلاح سياسي وعسكري". لكن التصريحات دون ضغط سياسي حقيقي لا تساوي شيئًا في ميزان القوة المختل.
ازدواجية الغرب: صمت القتلة وقوة الصور
نعم، الغرب يعرف ما يجري. ليس فقط لأنه يموّل جزءًا كبيرًا من العمليات الإنسانية، بل لأنه يملك القدرة على فرض التغيير لو أراد. اللافت أن كبرى العواصم الأوروبية مثل باريس ولندن وأمستردام لم تعد قادرة على إنكار الكارثة، لكنها لا تزال عاجزة عن اتخاذ موقف سياسي رادع. البيانات المشتركة، مثل تلك التي أصدرتها فرنسا وبريطانيا وكندا، والتي هدّدت فيها بـ"اتخاذ إجراءات"، لم تُترجم بعد إلى أي خطوة عملية.
حتى عندما يُحذّر رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، من أن المساعدات غير كافية، فإنه لا يُرفق تحذيره بأي عقوبة أو شرط. أما الإعلام الأوروبي، فهو في معظمه منشغل في تصوير المعابر كأنها مشهد إغاثي مؤقت، لا كأداة قتل بطيء. الصورة هنا تُستخدم لإضفاء طابع "التعاطف"، بينما يُغفل السياق السياسي والأخلاقي الكامل للجريمة.
المستشفيات تنهار… والنظام الدولي كذلك
في شمال غزة، تغلق المستشفيات أبوابها. لم يعد هناك طاقم طبي كافٍ، ولا كهرباء، ولا أدوية. منظمة الصحة العالمية تقول إن الناس "يغادرون المستشفى بأنفسهم". هل هناك صورة أقسى من ذلك؟ لا سيارات إسعاف تكفي، ولا حتى ضمان أن المستشفيات قائمة غدًا. إنها إبادة صحية واجتماعية مكتملة الأركان.
المأساة لا تقتصر على الشاحنات أو المساعدات. إنها تتعلق بكيفية تحويل الجسد الفلسطيني إلى ساحة اختبار يومي للذل: من ينجو، ومن يموت، ومن يتسوّل علبة حليب لطفله. ويحدث كل هذا على مرأى العالم، وسط حالة من الانهيار الأخلاقي الشامل للنظام الدولي.
ترامب وتناقضات النفوذ
تصريح لازاريني بأن دونالد ترامب قادر على تغيير الوضع يحمل دلالات عميقة. ليس فقط لأنه يعكس عجز المؤسسات الأممية، بل لأنه يكشف كيف أن مصير مئات الآلاف من البشر قد يُحدَّد بتغريدة واحدة لرئيس أميركي. حين يصبح ترامب، صاحب سجل القرارات العدوانية في الشرق الأوسط، هو أمل المؤسسات الإنسانية، فاعلم أن النظام الدولي يعيش على حافة الانهيار القيمي.
ترامب، الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس وأوقف تمويل أونروا سابقًا، لا يبدو كمن يحمل مفاتيح الحل، بل كمن يستطيع، بوقاحة، أن يعرض "صفقة" في لحظة جوع. في هذا السياق، يصبح استخدام المساعدات ليس فقط سلاحًا سياسيًا، بل وسيلة ابتزاز علني، تدخل فيها المساعدات ضمن بورصة المصالح "الأميركية الإسرائيلية".
نحو تسييس أخلاقي للمساعدات… لا نزع تسييسها
النداء إلى "عدم تسييس العمل الإنساني"، كما تطالب به أونروا، يبدو طوباويًا في ظل واقع شديد التسييس. المطلوب ليس نزع السياسة عن المساعدات، بل إعادة تسييسها بأخلاقية. لأن الحياد في زمن الجريمة ليس سوى تواطؤ. إن إدخال المساعدات إلى غزة هو موقف سياسي بحد ذاته، لأنه يكسر قبضة الاحتلال ويفضح تواطؤ الصمت.
إن كانت أوروبا جادة في انتقاد "إسرائيل"، فعليها أن تفعّل آليات المحاسبة، لا أن تكتفي بالإدانة. وإن كانت الولايات المتحدة تريد أن تُثبت أنها ليست راعية لمشروع الإبادة البطيئة، فعليها أن توقف دعمها العسكري والسياسي فورًا. أما الأمم المتحدة، فإما أن تعيد تعريف دورها، أو تعترف بأنها باتت مجرد منظمة توثيق لا أكثر.
غزة مرآتنا الأخلاقية
غزة لم تعد مجرد عنوانًا للصراع. إنها مرآة العالم الأخلاقية. من يصمت على تجويع شعب، يساهم في الجريمة. من يبرر منع المساعدات، يوقع على مذكرة إعدام جماعي. ومن يكتفي بالمراقبة، لا يختلف عن المنفذ. الكارثة في غزة لن تُحلّ ببيانات شجب، بل بقرارات سياسية رادعة، وبكسر منظومة الحصار لا ترميمها.
إنها لحظة الحقيقة… فإما أن يقف العالم مع الحياة، أو يصمت إلى الأبد في وجه الجريمة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]