الإثنين 17 أيار , 2021 12:19

"حارس الأسوار": هزيمة استراتيجية وأفول الحلم

أسبوع انقضى على إطلاق حماس عملية "سيف القدس" لنصرة الأقصى ردًّا على الأعمال الاستيطانية العدوانية الإسرائيلية في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة. أيام عدة مرت والتوقعات حول مصير العملية العسكرية الإسرائيلية "حارس الأسوار" غير واضحة ومتضاربة. البعض من المحللين يرى توجّهًا أمريكيًّا لإنهاء العملية، وهو طرح يتبنّاه عدد من قادة الاحتلال والخبراء السياسيين، ويدعون إليه. الصمت الأمريكي في بداية العملية، وما تلاه من دعم للكيان وإدانة لهجمات الصواريخ الفلسطينية، وعرقلة الجهود الدولية في مجلس الأمن لمجرد استصدار بيان عقيم، يقابله في الأفق تلويح بانتهاء المناورة السياسية لإسرائيل تكشفه محادثة بايدن الأخيرة مع نتنياهو، وفقًا لتحليل يديعوت أحرونوت.

الكل ترقّب مساعي موفد إدارة بايدن لوقف التصعيد العسكري والتهدئة، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية، هادي عمرو، يوم الجمعة الماضي إلى فلسطين توقع البعض انتهاء العملية يوم الأحد، بيد أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أطل مساء السبت ليعلن مواصلتها حتى "منع إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل"، واستمراريتها "ما دامت تقتضي الضرورة".

كيف يمكن للواقع بعد أسبوع من القتال أن يؤثّر على مجريات الأحداث؟ ما هي التحديات أمام الحكومة الإسرائيلية؟ قد تحمل الأيام المقبلة تناقضات إسرائيلية داخلية ومماطلة أمريكية بانتظار حل يراعي "ضرورة نتنياهو"، لكن من الواضح والمؤكد أن المسار الانحداري للكيان الصهيوني بدأت معالمه تتبلور، وستنضج تباعًا على مراحل تشهد معها الأمة أفول الحلم الصهيوني، ومن خلفه المراهنين عليه.

 الهزيمة الإسرائيلية عوامل وتحديات

تشير المعطيات الميدانية على مدى ستة أيام إلى تعرض الجبهة الإسرائيلية لخسائر فادحة مادية ومعنوية واستراتيجية. قد تشكّل الخسائر العوامل الأساسية في الضغط باتجاه وقف أيام القتال ولو بعد فترة. فالشارع الإسرائيلي اليوم يعيش لأول مرة في حياته معاني الهزيمة على المستويات كافة. وبات مندوب "إسرائيل" يقف على أبواب مجلس الأمن يستنجد إدانة بحق الهجمات الصاروخية الفلسطينية، والاسرائيليون يبحثون عن ملجأ وينتقدون حكومة وعدتهم بخطة حرب محكمة. وتجمل الورقة تاليًا أبرز معالم الخسارة الإسرائيلية على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية. كما تستعرض بعض أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الإسرائيلية على المستوى الاجتماعي والوجودي.

الخسائر الإسرائيلية الاقتصادية

الاقتصاد عصب الدول، و"إسرائيل" ما زالت كغيرها من الدول تعاني من أزمة اقتصادية حادة خلفتها الموجات المتتالية من فيروس كوفيد -19. واليوم، ازدادت الأزمة سوءًا مع الدخول في العملية العسكرية بدل التعافي. ذكّرت يديعوت أحرونوت أن الأضرار في الممتلكات الخاصة بلغت 100 مليون شيكل، حتى يوم الجمعة الماضي، وعشرات الملايين الإضافية في الممتلكات العامة. كما قدّرت الخسائر المباشرة وغير المباشرة خلال أربعة أيام بأنها أكثر من نصف حجم الأضرار في عملية الجرف الصلب (2014) على مدى 51 يومًا. الأضرار التي لحقت بالمدن الإسرائيلية حضرت في نفي قائد لواء المدرعات (404) أثناء نفيه وجود أي عملية توغل برية في غزة من شأنها إلحاق المزيد من الضرر بالمدن الإسرائيلية. وكلفة الإنفاق العسكري الإسرائيلي تتجاوز تعداد ملايين الدولارات في خانة المئات، يكفي أن يحتسَب عدد الصواريخ الاعتراضية من القبة الحديدية البالغ كلفة كل منها ما يفوق 150 ألف دولار، ناهيك عن مئات الغارات الإسرائيلية بكلفة 50 ألف دولار كل منها.

 القطاع الصناعي تأثر بشكل كبير. حيث قدّر اتحاد المصنّعين الإسرائيليين الضرر الذي لحق بالاقتصاد خلال ثلاثة أيام فقط من إطلاق الصواريخ من غزة بما يفوق 160 مليون دولار، وتبلغ الأضرار ملايين الدولارات كل يوم مع استمرار إغلاق المصانع. وشهد القطاع المالي انخفاضًا في العملة الإسرائيلية مقابل الدولار بشكل غير مسبوق، حال المعاملات التجارية والاقتصادية في سوق المال والبورصة والمصارف الإسرائيلية. وانتكس القطاع السياحي مجددًا بعدما كان يحاول النهوض من تداعيات أزمة كورونا. لقد أدّى اتساع نطاق مدى القدرات الصاروخية وتهديد فصائل المقاومة بضرب الاحتلال الإسرائيلي في حيفا وإيلات أي من أقصى شمال فلسطين إلى جنوبها، إلى شلّ الحركة السياحية وإيقاف الوفود الأجنبية وتعليق جميع الرحلات. وفشل المسعى الإسرائيلي بتحييد الحركة المدنية الجوية في استبدال نشاط مطار بن غوريون في تل أبيب بمطار رامونا بعدما تعرّض لصليات صاروخية أوقفت العمل فيه. وقد حذرت وكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية من أن الجولة الحالية في الصراع قد تؤثر سلبًا على التصنيف السيادي لإسرائيل.

الهزيمة الأمنية والعسكرية

 يمكن رصد الفشل الإسرائيلي عسكريًّا وأمنيًّا على مستوى أهداف العملية والتقديرات الاستخباراتية وآثاره المعنوية على الجيش والمستوطنين الإسرائيليين. لقد أظهر استمرار الهجمات الصاروخية المزيد من ضعف فعالية القبة الحديدية، "السلاح المعجزة" غير القابل للاختراق في المنظور الإسرائيلي. وجاء عجز المنظومة عن اعتراض صواريخ المقاومة باتجاه العمق الإسرائيلي بنسبة 70 % تقريبًا. وفشلت القيادة العسكرية الإسرائيلية على مستوى التخطيط الاستراتيجي بعدما منيت عملية "مترو غزة" بالهزيمة وهي عملية مخطط لها على مدى ثلاث سنوات على الأقل، كما صرّح المراسل العسكري في معاريف، طال ليف رام.  

 كما كشفت عملية "سيف القدس" ضعف التقدير الاستخباراتي الإسرائيلي في تقويم قوة حماس الصاروخية والمواقف التي قد تقدم عليها الحركة وفقًا للباحثة الإسرائيلية في مركز هرتسيليا، ليراز مرغليت. والخطورة الأكبر، والكلام للباحثة نفسها، تكمن في هشاشة تحليل المعطيات الجامدة وعدم تسييلها، على افتراض معرفة المؤسسة الأمنية أساسًا بتلك المعطيات. وبمعنى آخر، يكشف الخطأ في التقدير الإسرائيلي ثغرة استراتيجية لتعلقها بالقدرة على تحديد الإنذار المبكر.

 عسكريًّا، فشلت حتى الآن الأهداف الإسرائيلية التي كشفها "رون بن يشاي" في جريدة يديعوت أحرونوت، وهي أهداف عسكرية ثلاثة سعى إليها العدوان على غزة ضمن عملية "حارس الأسوار"، وصادق عليها مجلس الوزراء. فالاحتلال لم ينجح في "إلحاق أضرار جسيمة ومدمرة بالصواريخ وغيرها من القدرات القتالية" لفصائل المقاومة الفلسطينية بدليل استمرار الهجمات الصاروخية بل وتصعيدها؛ حيث قدّر قائد الجبهة الداخلية الإسرائيلية "أوري غوردين" بأن عدد الصواريخ خلال الأسبوع المنصرم يعادل عدد ما أطلق على مدى 51 يومًا في عملية الجرف الصلب (2014)، ناهيك عن دخول أنواع جديدة من الصواريخ بمدى يفوق 250 كلم. وأظهرت المعطيات الميدانية وتطورات الأحداث وهم الهدف الثاني والمسعى الإسرائيلي في "تقويض قدرة المقاومة التدميرية على إعادة تأهيل الأنظمة العسكرية، وبالتالي تقويض قدرتها على مواجهة إسرائيل لسنوات".

 وقد أكّد استهداف قطاع غزة للمدن والبلدات الإسرائيلية بثلاثة آلاف صاروخ منذ بداية التصعيد، وفق مصادر الإعلام العبري، الحاجة الإسرائيلية إلى إعادة احتساب المسار العسكري وتقويم الجهوزية القتالية لحرب الجبهات المتعددة. لقد عجزت الغارات المكثفة من القضاء على المخزون الصاروخي لجبهة واحدة، وفق المعلومات التي أدلى بها مراسل يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشواع. ويعدّ تقرير موقع "إسرائيل ديفينس" الصادر في الخامس عشر من شهر أيار الجاري حول المواجهات المتصاعدة حدتها دليلًا على فشل الهدف الإسرائيلي الثالث في "إعادة تأهيل الردع أمام منظمات غزة". فالتقرير المعنون بـ" ما يمر علينا الآن سيكون "حضانة" لما هو متوقع في المواجهة مع حزب الله" يظهر الحالة الانهزامية العسكرية والمعنوية ليس على مستوى عامة الشعب، وإنما داخل أروقة أصحاب القرار وفي كلام صنّاعه، ومنهم أصحاب السلطة الرابعة.

يدعم القول بهشاشة هذا الهدف نشوء معادلات جديدة في الداخل الفلسطيني قوامها "الجبهة الموحّدة" وعنوانها "غزة درع القدس وفلسطين كلها". وفي المقابل، تترسخ مفاهيم انكسار هيبة الجيش الإسرائيلي مع صور الجنود المنبطحين أرضًا خوفًا من صواريخ المقاومة الفلسطينية، والممتنعين عن الالتحاق بالخدمة خوفًا من حجارة الشعب الفلسطيني. والمدلولات على انهيار الصورة العسكرية كثيرة ليس آخرها سماح القيادة الإسرائيلية الجنوبية والشمالية لجنود الخدمة النظامية باعتماد اللباس المدني أثناء توجههم إلى القواعد العسكرية خوفًا من الشباب العرب في مناطق الضفة وأراضي 48.

الفشل الاستراتيجي تهديد وجودي

استراتيجيًّا، قد يكون العامل الأبرز في الدلالات على الفشل الإسرائيلي، والبقية تبنى عليه بالتبعية، هو حياة نبض القضية الفلسطينية التي اعتقد أصحاب مشروع التطبيع أنهم قضوا عليها في خضم سلسلة اتفاقيات إبراهام. تعترف وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن الجولة الجديدة من الصراع "أعادت إحياء الهوية الفلسطينية التي أخطأ الإسرائيليون بالاعتقاد بأنها محيت وسط "عرب 48". لقد فشل الرهان الإسرائيلي والأمريكي أمام وحدة الشعب الفلسطيني وبوصلة فصائل المقاومة. وأظهرت حالة الوعي السياسي لدى أجيال فلسطينيي الداخل خطأ الاعتقاد والتصور الإسرائيلي بنجاح التضليل الإعلامي والفكري الإسرائيلي والخليجي في حرف بوصلة الصراع عن القدس باتجاه صراعات طائفية ومذهبية مصطنعة لتفكيك الأمة وتقسيم المنطقة. فالصراع سياسي بامتياز ومحوره هو فلسطين؛ والاصطفاف هو في جبهتين: إما مع محور المقاومة مع القضية الفلسطينية أو مع محور المغامرين والمقامرين بمصير الشعوب المستضعفة.

التحديات وإيذان الأفول

 لقد غرس الفشل الإسرائيلي عسكريًّا في الأيام القتالية الستة الأولى مفهوم "وهم الأمن المطلق" في الوعي الإسرائيلي، تمامًا كما فتكت الفجوة الواقعية بين المعطيات الاستخباراتية الإسرائيلية والقدرة التحليلية لها على التنبوء بحرب قادة العدو على الوعي الإسرائيلي. إن السذاجة الجماهيرية الإسرائيلية التي يستغلها القادة الإسرائيليون بالتضليل والأكاذيب لن تنجح هذه المرة في كي الوعي الإسرائيلي الذي بات يعاين بنفسه واقع تصدّع الدولة "الحلم" من الداخل وانهيار ردع الجيش الإسرائيلي. والتحدي الآخر الماثل أمام الحكومة الإسرائيلية بعد إعادة كي الوعي الإسرائيلي، واستعادة ثقة الجمهور بالقرار السياسي والعسكري والقدرة والجهوزية لتأمين الحماية، سيكون مصير صفقات بيع المنظومة الدفاعية للولايات المتحدة والدول الخليجية، الإمارات والسعودية.

 بيد أن التحدي الأكبر على حكومة الاحتلال الإسرائيلي هو انهاء انتفاضة الداخل الفلسطيني، انتفاضة الضفة وأراضي 48، لما تمثّله تحركات مناطق الداخل الفلسطيني وفقدان السيطرة على الشارع العربي في المناطق الإسرائيلية من تهديدات أخطر من صواريخ غزة وفقًا لنتنياهو، ومن تهديد وجوديّ على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أفيغدور ليبرمان. لن يكون الأمر سهلًا على حكومة "إسرائيل" حتى لو توقفت العملية، لأن فلسطينيي 48 والضفة لن يكون لهم بعد اليوم مسار تقهقري، والعقود الطّوال من المساعي الإسرائيلية ومؤامرات بعض الدول العربية لتغييب القضية الفلسطينية داستها الشعوب الحرة في الداخل الفلسطيني وعلى الحدود الأردنية وفي الصعيد المصري وسائر الدول العربية والأوروبية. لقد حوّلت الأحداث الأخيرة السجن الجغرافي والفكري الذي عمل الكيان الصهيوني على تقييد الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة إلى سجن للشعب "الموعود" نفسه؛ تتآكل أوهام التفوق الزائفة جدرانه من الداخل.

مآلات استشرافية

 الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يشهد استدارة لصالح القضية الفلسطينية، والمجتمع الإسرائيلي يعاني من التناقضات والافتقار لعقلنة القرار السياسي أثناء الأزمات، ومعركة "سيف القدس" زعزعت كلا الكيان والمجتمع الإسرائيلي، فإلى أي مدى يمكن الرهان على صمود الإسرائيليين؟ قد تتجه الولايات المتحدة إلى استبدال الضوء الأخضر بالأحمر، وتدفع باتجاه وقف العدوان وعدم تمديد المهلة الزمنية، إذا ما اقتضت مصلحة المؤسسة الأمريكية منع الغرق الإسرائيلي أكثر فأكثر، وتاليًا منع الانجرار الأمريكي إلى مستنقع من الصراع في منطقة غرب آسيا؛ هو أبعد ما يكون عن أولويات الإدارة الأمريكية الحالية في المرحلة الراهنة.

 وعلى النقيض من ذلك، قد يبقى التدخل الأمريكي للضغط باتجاه حل الأزمة "متأخرًا وأعرجا"؛ الوصف الذي أطلقه المعلق بوبي غوش في موقع بلومبيرغ على تدخل بايدن الأخير نتيجة تزايد الضغوط داخل الحزب الديمقراطي عليه. وقد تحمل عبارة بايدن الأخيرة حول سعي إدارته للوصول إلى "تهدئة دائمة" مؤشرات جديدة تفترض متابعة مدلول الكلمة والوسائل إليها. قد تذعن إدارة بايدن لضغوط اللوبي الصهيوني لكبح انهاء العملية بما يخدم حماس أو يقدم مزيدًا من الانتصارات لفصائل المقاومة. وقد يسعى الإسرائيلي للتحكم بتوقيت نهاية الحملة لمنع تثبيت المقاومة الانتصار السياسي من جهة، والحؤول دون ارتهان الكيان لصواريخ المقاومة، وتحكّم فصائل المقاومة بتوقيت المعركة القادمة.

أما المؤكد في كلا الحالتين فهو أن الولايات المتحدة تدرك أن "إسرائيل" غير قادرة على تحقيق مكتسبات وانتصارات حقيقية فضلًا عن انتصارات واهية وواهمة حتى في عيون الشعب الإسرائيلي نفسه. إن الوهن واليأس والهزيمة الحتمية باتت من أوضح مرتكزات الوعي الإسرائيلي في المرحلة الحالية، وفي ذلك يقول ضابط الشاباك السابق، جونين بن يتسحاق: "مهما فعلنا لن نحقق النصر هذه المرة، لقد هُزمنا". وستنعكس هذه المفاهيم أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة لأن الانبطاح لن يتولّد منه إلا المزيد من التفكك والتصدع. وإذا كان الإسرائيليون أنفسهم يعترفون بأن "خطاب بيت العنكبوت الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل سنوات يتجلّى على أرض الواقع هذه الأيام" كما يقول الصحفي نداف إيال، فإذًا يتوجب على الإسرائيليين أن يتأكدوا من أن اليوم الذي سيتهاوى معه بيت العنكبوت تلقائيًّا، كما أخبر السيد نصر الله، آت لا محال. يبقى أن ننتظر إلى متى سيمدّد الأمريكي الضوء الأخضر للعملية الإسرائيلية، وماهية الحد الذي سيتماهى معه الأمريكي في مراعاة المصلحة الإسرائيلية.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


مرفقات


الكاتب: د. مريم رضا




روزنامة المحور