منذ انطلاقة المقاومة الإسلامية في لبنان، لم تكن المواجهة مع العدو الإسرائيلي محصورة في الميدان العسكري الصرف، بل امتدت لتشمل بعداً أخلاقياً وإنسانياً شكل أحد أعمدة خطابها وممارستها. وقد برز هذا البعد بشكل واضح خلال حرب الإسناد مع غزة، حيث أراد حزب الله أن يقدم نموذجاً مغايراً في إدارة الصراع، يوازن بين الفعل العسكري الصلب والخطاب الأخلاقي الذي يشرّع المقاومة ويكسبها التعاطف والدعم الشعبي والإقليمي والدولي.
الحرب الأخلاقية التي خاضها حزب الله خلال هذه المرحلة لم تكن مجرد شعار، بل استراتيجية متكاملة. فقد أدرك الحزب أنّ المعركة مع العدو لا تُقاس فقط بميزان القوة المادية، بل أيضاً بميزان الشرعية الأخلاقية. هذه الشرعية تتجلى في القدرة على إظهار الفارق الجوهري بين مشروع مقاوم يسعى لحماية الإنسان والأرض والكرامة، وبين كيان محتلّ يستبيح الدماء ويعتمد القتل العشوائي والتدمير الممنهج. ومن هنا، كانت كل عملية عسكرية ينفذها الحزب تحمل رسالة مزدوجة: دعم عملي لغزة وتثبيت معادلات الردع، وفي الوقت ذاته تأكيد الطابع الأخلاقي للمقاومة.
لقد ركّز حزب الله على عدة مبادئ أساسية في هذه الحرب. أولها، الالتزام بالتمييز بين الأهداف العسكرية والإنسانية، بحيث تتوجه ضرباته نحو المواقع والمنشآت ذات الطابع العسكري أو الاستيطاني المرتبط مباشرة بالمجهود الحربي للعدو، في مقابل الحرص على تجنب استهداف المدنيين العاديين. هذا الالتزام لم يكن مجرد تكتيك علاقات عامة، بل خياراً استراتيجياً يعكس رؤية الحزب لدوره في الصراع. فالمقاومة، من وجهة نظره، ليست مشروع إبادة ولا انتقام، بل مشروع تحرر يهدف إلى إنهاء الاحتلال وإقامة العدالة.
ثاني هذه المبادئ يتمثل في البعد الإعلامي والدعائي للحرب الأخلاقية. فقد عمل الحزب على توظيف وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لتظهير صور المعاناة الإنسانية في غزة، مقابل إبراز دقة عملياته في الداخل الفلسطيني المحتل. هذه المقارنة خلقت تعاطفاً واسعاً مع المقاومة، وفضحت الجرائم الإسرائيلية أمام الرأي العام. وبذلك تحولت الحرب الإعلامية إلى ساحة موازية للمعركة العسكرية، حيث برزت القدرة على صياغة خطاب أخلاقي مقنع يحرج العدو ويُربك روايته.
أما المبدأ الثالث فيتمثل في ربط المعركة بأبعادها القيمية والدينية والثقافية. فالحزب قدّم دعمه لغزة على أنه التزام ديني وأخلاقي قبل أن يكون واجباً سياسياً أو عسكرياً. هذا الخطاب عزز مشروعية المقاومة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وأعطاها بعداً يتجاوز الحسابات الباردة للمصالح. لقد كان الحزب حريصاً على التأكيد أن دعمه لغزة نابع من قيم التضامن والعدل، ما جعله أقرب إلى وجدان الناس، وأبعد ما يكون عن منطق التحالفات الظرفية أو المساومات السياسية.
إضافة إلى ذلك، أظهر حزب الله خلال هذه الحرب قدرة على الجمع بين العقلانية والانضباط. فهو لم ينجرّ إلى ردود فعل انفعالية رغم وحشية العدوان على غزة، بل حافظ على وتيرة مدروسة في عملياته، بحيث لا يفتح الباب أمام حرب شاملة غير محسوبة، وفي الوقت نفسه يضمن استمرار الضغط على العدو. هذه الإدارة المتوازنة أكسبت الحزب صورة القوة المسؤولة، القادرة على ضبط السلاح ضمن رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
لقد أثمرت هذه الحرب الأخلاقية عدة نتائج ملموسة. فمن جهة، عززت موقع حزب الله كقوة إسناد فعلي للمقاومة الفلسطينية، لا بالشعارات فقط بل بالفعل العسكري والإعلامي. ومن جهة ثانية، عمّقت عزلة الكيان الإسرائيلي دولياً، إذ وجد نفسه متهماً بارتكاب المجازر في غزة مقابل طرف مقاوم يقدّم نفسه بصفته مدافعاً عن المظلومين. كما أسهمت هذه التجربة في ترسيخ قناعة لدى الرأي العام العربي بأن المقاومة لا تزال الحصن الأخير للأمة في مواجهة الاحتلال.
يمكن القول إن تجربة حزب الله في حرب الإسناد مع غزة مثّلت نموذجاً متقدماً للحرب الأخلاقية في عالمنا المعاصر. فهي أثبتت أن القوة العسكرية، مهما بلغت من تطور، لا تكفي وحدها لتحقيق النصر إذا لم تقترن بشرعية أخلاقية تسندها. كما أظهرت أن الرهان على القيم الإنسانية والالتزام بمبادئ العدالة يمكن أن يكون سلاحاً لا يقل فعالية عن الصواريخ والدبابات، خاصة في عصر الإعلام المفتوح والرأي العام العالمي.
في المحصلة، قدم حزب الله من خلال هذه التجربة دروساً بالغة الأهمية حول طبيعة الصراع مع العدو. فقد بيّن أن المقاومة قادرة على خوض حرب مركبة، يكون فيها البعد الأخلاقي جزءاً لا يتجزأ من المعركة الشاملة. وهذا ما يمنحها القدرة على الاستمرار، ليس فقط لأنها تملك السلاح، بل لأنها تحمل مشروعاً أخلاقياً يلامس وجدان الناس ويمنحها الشرعية والدعم. ومن هنا، يمكن اعتبار الحرب الأخلاقية التي خاضها حزب الله في إسناد غزة واحدة من أبرز محطات تطور تجربته الاستراتيجية، ومثالاً يحتذى في كيفية تحويل المبادئ إلى قوة فعلية في ميادين الصراع.
الكاتب: غرفة التحرير