لم تكن عملية الاغتيال التي شهدتها صنعاء قبل أسابيع مجرد ضربة عسكرية محدودة الأثر، بل محاولة إسرائيلية مدروسة لإحداث خرق في البنية السياسية والأمنية. الهدف المعلن كان ضرب مركز القرار اليمني عبر استهداف قيادات عسكرية في طليعتها قائد الأركان، لكن الحسابات أخطأت إصابة الهدف، فأودت بحياة وزراء مدنيين بينهم رئيس الحكومة. هذه المفارقة تكشف أولاً ثغرة استخباراتية لدى منفّذي العملية، وتشي ثانياً بأن الرهان على شلّ صنعاء من خلال إسقاط رموز سياسية لم يعد ممكناً كما في السابق.
القراءة الأولى التي خرجت بها العواصم الغربية والإقليمية أن صنعاء ستدخل في حالة إرباك. غير أن الساعات الأولى بعد الحادثة أظهرت العكس: القرارات صدرت بتعيين بدائل فورية، والوزارات استمرت في عملها، ولم يظهر أي فراغ مؤسسي يمكن استغلاله. وبحسب مصادر تحدثت إلى "الخنادق" فإنه قد "بدا واضحاً أن صنعاء راكمت خلال سنوات الحرب خبرة في إدارة الأزمات وتجاوز الصدمات، وأن هرم السلطة لم يعد قائماً على أفراد بقدر ما يستند إلى منظومة متماسكة قادرة على إعادة إنتاج نفسها بسرعة".
من هذه الزاوية، قد تكون الخسارة بشرية وسياسية مؤلمة، لكن الأثر البنيوي بقي محدوداً. بل يمكن القول إن العملية عززت حالة الالتفاف الشعبي حول القيادة العليا، خصوصاً مع ربطها مباشرة بمواجهة كيان الاحتلال ونصرة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة. وهذا يفسر لماذا واصلت القوات المسلحة اليمنية هجماتها الصاروخية والبحرية على المصالح الإسرائيلية من دون انقطاع، بل توسعت دائرة الاستهداف لتشمل مطارات في عمق فلسطين المحتلة.
جهود الاحتلال بإحداث خرق على الساحة اليمنية مستمرة، وإذا كان الاغتيال قد فشل في إحداث تغيير داخلي، فإن الجهد انتقل نحو البحر. هنا يظهر الدور الإماراتي بوضوح، بوصفه جزءاً من شبكة أوسع تتلاقى مع المصالح الإسرائيلية والأميركية. فقد دفعت أبوظبي بميليشياتها المنتشرة على طول خليج عدن وباب المندب إلى تكثيف نشاطها تحت شعار "منع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى صنعاء". على الرغم من أن الأهداف غير المعلنة أكبر بكثير، وتخفي خلفها هدفاً استراتيجياً أبعد: تكريس سيطرة دائمة على الممرات البحرية الحيوية وربطها بمشاريع تل أبيب الأمنية والاقتصادية.
إلا أن الواقع تغيّر عمّا كان عليه في سنوات الحرب الأولى. فصنعاء طورت ترسانتها العسكرية داخلياً، وأصبحت قادرة على إنتاج الصواريخ والمسيّرات بكميات تكفي لتأمين جزء من حاجاتها الاستراتيجية. هذا التطور يجعل من محاولات قطع الإمدادات الخارجية خطوة متأخرة وغير ذات أثر حاسم. ومع ذلك، لا تتوقف أبوظبي عن اللعب على ورقة السواحل والجزر، لما تمثله من قيمة مضاعفة: أداة ضغط على صنعاء، ووسيلة لتثبيت حضورها الإقليمي في ظل تقاطعها مع مشاريع أميركية وإسرائيلية في البحر الأحمر.
اللافت أن ساحة الاشتباك لم تعد يمنية بحتة. البحر الأحمر تحوّل إلى مسرح إقليمي تتقاطع فيه مصالح متشابكة. فالتوترات في القرن الأفريقي – من النزاع بين إثيوبيا وإريتريا حول الموانئ، إلى الأزمات في الصومال وامتداد النفوذ عبر أرض الصومال – كلها عوامل تجعل من هذه الرقعة بوابة أساسية للنفوذ.
بالنسبة لتل أبيب، يمثّل البحر الأحمر عمقاً استراتيجياً لا يقل أهمية عن جبهاتها الأخرى. ومن هنا يأتي حرصها على بناء شراكات مباشرة أو غير مباشرة مع عواصم خليجية، لتأمين خطوط الملاحة ومنع اليمن من فرض معادلة ردع بحرية. وفي هذا الإطار، يصبح الدور الإماراتي حلقة في شبكة أكبر تمتد من الخليج إلى القرن الأفريقي، حيث يجري الاستثمار في الموانئ والجزر والتفاهمات الأمنية مع بعض الدول، لتأمين الضفة المقابلة لباب المندب وإحكام الطوق على صنعاء.
ما يظهر اليوم أن صنعاء لم تُشلّ باغتيال وزرائها، وأن محاولة إحداث فراغ سياسي فشلت. لكن التحدي الأكبر يتمثل في معركة البحر الأحمر، حيث تلتقي حسابات تل أبيب وأبوظبي وواشنطن مع هشاشة بعض الدول الأفريقية، لتشكّل جميعها جداراً من الضغوط المتواصلة على اليمن.
غير أن التجربة اليمنية خلال السنوات الماضية تؤكد أن هذا البلد اعتاد تحويل الخسائر إلى أوراق قوة. الاغتيالات قد تترك جرحاً داخلياً، لكنّها لم تمسّ جوهر القدرة على الاستمرار. والسيطرة على البحر قد تبدو ممكنة على الورق، لكن موازين الردع تغيّرت، وأي محاولة لإقصاء صنعاء عن معادلة البحر الأحمر ستعني فتح فصل جديد من المواجهة، لا نهاية لها في الأفق القريب.
الكاتب: غرفة التحرير