تمثل أحداث السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2024 الشرارة التي دشنت مرحلة جديدة من المواجهة مع كيان الاحتلال. في ذلك اليوم، وبينما كانت الضاحية الجنوبية تعج بالأهالي الذين يجهزون أطفالهم للعودة إلى المدارس نفذ كيان الاحتلال جريمته التي كانت على دفعتين أولها في 17 أيلول وثانيها في 18 أيلول. حيث فجر أجهزة البيجر المتواجدة مع المقاومين الذي كانوا في منازلهم أو في الأسواق التجارية والطرقات، ما تسبب باستشهاد وجرح الآلاف من الشباب والأطفال والنساء. وتبع هذه الجريمة سلسلة من الاغتيالات التي كان أبرزها محاولة النيل من القيادة الميدانية، وعلى رأسها الحاج إبراهيم عقيل ومن كان معه من مسؤولي الصف الأول في حزب الله. لم تتوقف آلة الحرب عند هذا الحد، بل امتدت يد الاحتلال لتقوم بسلسلة من الأحزمة النارية لفت قرى الجنوب اللبناني في 23 أيلول وأسفرت عن الكثير من الشهداء فيهم العديد من المدنيين ما دفع أهالي القرى إلى النزوح منها. أما في السابع والعشرين من الشهر ذاته قام الاحتلال بإعلان حربه على كل لبنان باغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في غرفة العمليات التي كان يشرف من خلالها على مجريات الأمور بالضاحية الجنوبية.
أمام هذا المشهد -الذي قدم باقتضاب-، كان من السهل أن يتخيل البعض أن المقاومة ستترنح أو تُشلّ إرادتها بفقدان رأس قيادتها. لكن ما حدث كان على العكس تماماً حيث عادت المقاومة بعد 10 أيام لتنهض وتقوم بالدفاع عن لبنان بقيادة الأمين العام الذي تم انتخابه خلال الحرب الشيخ نعيم قاسم.
صبرٌ وجهادٌ دون يأس
حين أطلق الشيخ نعيم قاسم على هذه الحرب اسم "حرب أولي البأس"، لم يكن ذلك مجرّد شعار تعبوي. بل كان توصيفًا دقيقًا لمرحلة كاملة عاشها لبنان على مدى 66 يوماً متواصلة من المواجهة المفتوحة. وتحمل تسمية "أولي البأس" دلالات كثيرة ففي المعجم القرآني تدل على: أصحاب القوة والصلابة، الشداد في القتال، الثابتون في الميدان. وقد أراد قاسم أن يُسقط هذا المفهوم على واقع المقاومة بعد سلسلة الاغتيالات والاستهدافات، ليؤكد أن هؤلاء المقاتلين وجمهورهم هم الامتداد الطبيعي لذلك النموذج القرآني الذي لا يعرف الانكسار.
ما ميّز تلك المرحلة ليس فقط استمرار العمليات العسكرية ضد الاحتلال، بل قدرة المقاومة على إدارة المعركة رغم غياب القيادة المركزية المباشر. كان الرهان على انهيار البنية الداخلية سريعاً، لكن الإصرار على الاستمرار والصمود حال دون تحقيق مآرب الاحتلال. بهذا المعنى، جسّد المقاومون جوهر "أولي البأس": الصبر في وجه المصاعب، ومتابعة مسيرة الجهاد دون يأس أو كلل. وكذلك البيئة الحاضنة التي جسدت هذا المفهوم بثبات عجيب. هذا الثبات الشعبي هو الذي شكّل الرافعة الأساسية لصمود المقاومة.
إعادة التموضع
اغتيال السيد نصر الله مثّل بلا شك صدمة معنوية. حيث كان محكاً لاختبار عمق التجربة المقاومة وصار نقطة انطلاق لمسار جديد، أثبت أن المقاومة مشروع متجذر في الأرض والناس.
هذا المعنى هو ما جعل تسمية "أولي البأس" يعكس حالة البيئة المقاومة فالبأس هنا ليس فقط في حمل السلاح، بل في القدرة على تحويل المصاعب إلى فرص، ودافع إضافي للاستمرار. لقد سعى الاحتلال إلى اغتيال القيادة ظناً منه أن ذلك سيؤدي إلى شلل تام، لكنه فوجئ بأن القيادة امتلكت القدرة على إعادة التموضع بسرعة، وأن الميدان ظل مشتعلاً طوال 66 يوماً دون توقف.
ملحمة مستمرة
عادةً تكتسب تسمية الحروب أهمية خاصة نظراً لأنها ستترسخ في العقل الجمعي ويتم تناقلها للأجيال وهذا ما حققته "أولي البأس" في ترسيخ صورة المقاومة في المخيلة الشعبية كـ رجال صامدين، ثابتين، شديدي البأس، قادرين على مواجهة عدو يفترض نفسه لا يُقهر. بهذا المعنى، تصبح التسمية هوية يستدل بها على مجريات فترة زمنية معينة.
بعد مرور هذه الأحداث، بات واضحاً أن ما جرى لم يكن مجرد مواجهة عسكرية أخرى، بل ملحمة صمود أثبتت أن المقاومة قادرة على النهوض من تحت الركام، وعلى مواصلة الطريق مهما كان الثمن. تسمية "حرب أولي البأس" جاءت لتختصر هذه التجربة: رجال ونساء صمدوا، جاهدوا، أكملوا الطريق دون يأس، وتحولوا إلى نموذج يُدرّس في الإرادة والإصرار.
الكاتب: غرفة التحرير