الثلاثاء 09 أيلول , 2025 03:45

وثيقة "الخطوط الحمراء": التجويع بدأ منذ عام 2007

ايهود أولمرت المشرف على خطط حصار قطاع غزة

من بين أكثر السياسات التي كشفت الوجه الحقيقي للحصار الإسرائيلي على غزة، برزت ما عُرفت بـ "وثيقة الخطوط الحمراء"، التي أُعدت سراً في عهد حكومة إيهود أولمرت عام 2007. هذه الوثيقة، التي لم يُكشف عنها إلا بعد معركة قضائية خاضتها جمعية حقوقية إسرائيلية، تكشف بوضوح كيف تعامل الاحتلال مع الغذاء –أبسط مقومات الحياة– كأداة من أدوات الضغط والحرب الاقتصادية على سكان القطاع.

ظهرت "الخطوط الحمراء" لأول مرة في تقرير صحفي نُشر عام 2009 بقلم أوري بلاو ويوتام فيلدمان في صحيفة "هآرتس" العبرية، قبل أن يُجبر الاحتلال على نشرها رسمياً عام 2012. الوثيقة صيغت في مكتب ما يسمى "منسق العمليات في المناطق" برئاسة الجنرال عاموس غلعاد، بعد خمسة أشهر من قرار حكومة أولمرت فرض حصار شامل على غزة عقب سيطرة حركة حماس على القطاع في أيلول/سبتمبر 2007.

الهدف المعلن كان "تنظيم إدخال المواد الغذائية"، لكن خلف هذا التعبير البيروقراطي كان يكمن تصور أمني واضح "إبقاء السكان عند مستوى غذائي قريب من الحد الأدنى، دون الوصول إلى المجاعة التي قد تُعرّض إسرائيل للمساءلة الدولية".

2,279 سعرة حرارية للفرد

اعتمدت الوثيقة على حساب "الحد الأدنى" من السعرات الحرارية الضرورية لكل شخص، وحددته بـ 2,279 سعرة حرارية يومياً، موزعة على 1,836 غراماً من المواد الغذائية للفرد. بناء على هذه الأرقام، قدّرت الوثيقة حاجة القطاع بنحو 170 شاحنة يومياً لنقل الغذاء. لكن "إسرائيل" خفّضت هذا الرقم تحت ذريعة وجود "إنتاج محلي" في غزة، فهبط المعدل إلى نحو 101 شاحنة يومياً فقط.

الوثيقة لم تكتفِ بتقليص الكميات، بل تلاعبت بالتركيبة الغذائية نفسها: فمثلاً زادت حصة السكر، وقلّصت بشدة حصص الحليب واللحوم والخضار، بزعم أنها تتناسب مع "ثقافة الاستهلاك" في غزة. هذه المنهجية تُظهر أن الاحتلال لم يكن يسعى لتأمين نظام غذائي متوازن، لا يؤمن احتياجات أهل غزة.

أدوات الحرب الاقتصادية

من خلال هذه الوثيقة، حوّلت "إسرائيل" الحصار إلى منظومة دقيقة للضغط الجماعي. بحيث وضعت قوائم بالمواد التي يحظر دخولها إلى القطاع مثل مواد البناء والكتب. وثانية بالمواد المسموح إدخالها بكميات محددة.

بعبارة أخرى، شكّلت "الخطوط الحمراء" البنية النظرية لسياسة الاحتلال في إبقاء غزة على حافة الأزمة الإنسانية: لا مجاعة جماعية تُحرج الاحتلال دولياً، لكن أيضاً لا اكتفاء أو استقرار يسمحان بترميم الحياة.

التطبيق العملي والنتائج

رغم ادعاءات الاحتلال أن الوثيقة "لم تُطبّق"، إلا أن الوقائع على الأرض أثبتت العكس. فبحسب مقارنة جمعية "غيشاه" مع بيانات الأمم المتحدة، كان عدد الشاحنات التي سُمح بدخولها في كثير من الأحيان أقل من الحد الأدنى نفسه الذي وضعته الوثيقة. كما أدت القيود على إدخال البذور والأعلاف إلى انهيار تدريجي في الإنتاج الزراعي والحيواني المحلي، ما فاقم اعتماد السكان على الإمدادات المحدودة المسموح بها.

حتى في شهر رمضان، حين طالبت المؤسسات الإنسانية بزيادة كمية اللحوم المستوردة، رفضت السلطات الإسرائيلية ذلك بحجة أن العدد المقرر مسبقاً يكفي، في إشارة إلى أن الهدف لم يكن تلبية الحاجة الفعلية، بل الالتزام بالحد السياسي-الأمني الموضوع مسبقاً.

الموقف القانوني والدولي

من منظور القانون الدولي الإنساني، تشكل هذه السياسة انتهاكاً واضحاً لمبادئ اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر "استخدام الحصار لتجويع المدنيين أو معاقبتهم جماعياً". أو حتى تحويل الغذاء إلى أداة ضغط سياسي.

وقد صرّح مسؤولون في الأونروا أن سياسة الخطوط الحمراء "تتناقض مع المبادئ الإنسانية" وأنها لم تمنع وقوع أزمات غذائية متكررة في غزة. لكن، ورغم هذه الإدانات، استمرت "إسرائيل" في فرض قيودها، مستفيدة من غياب آليات إلزامية لمحاسبتها.

إن سياسة التجويع التي يعاني منها أهالي غزة اليوم لا يمكن النظر إليها كحدث جديد بدأ في آذار/مارس 2025، بل هي امتداد لمسار طويل يعود إلى عام 2007، حين فرض الاحتلال حصاره الشامل على القطاع ومنذ ذلك الحين، اتبعت سلطات الاحتلال أساليب متعددة لإضعاف المجتمع الغزي وتجريده من أبسط مقومات الحياة، بدءاً من تقنين إدخال المواد الغذائية والدوائية والوقود، مروراً بتقييد حركة الصيادين والمزارعين وتدمير البنية التحتية، وصولاً إلى منع وصول المساعدات الإنسانية في أوقات الأزمات.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور