الثلاثاء 17 حزيران , 2025 06:08

مرحلة كسر العظام.. إيران تحطّم أسطورة الجبهة الداخلية المحصنة وتفرض معادلة "الألم مقابل الألم"

الضربات الإيرانية على الكيان الإسرائيلي

في اليوم الرابع لعملية "الوعد الصادق 3"، كشفت الحملة الهجومية الايرانية المركبة عن تطور لافت في العقيدة العسكرية الإيرانية القائمة على الحرب غير المتكافئة. فأحداث يوم وليلة السادس عشر والسابع عشر من حزيران/يونيو، أظهرت انتقال الحرب من كونها عدواناً إسرائيلياً إلى كونها حرباً تبادلية لكسر العظم. بعدما أعلنت إيران عن "الموجة التاسعة" من هجماتها.

لم يكن الرد الإيراني عشوائياً، بل كان تجسيداً متقناً لعقيدة الحرب غير المتكافئة. استخدمت إيران تكتيك "الإغراق والإشباع"؛ حيث انطلقت أسراب كثيفة من الطائرات المسيّرة الانتحارية، والتي بلغ عددها أكثر من 550 طائرة خلال 72 ساعة، كطُعم لإجبار الدفاعات الجوية الإسرائيلية على كشف مواقعها واستنزاف صواريخها الاعتراضية باهظة الثمن. وفور أن يتم إرهاق هذه الدفاعات بوجبات ثانية من صواريخ كروز المجنحة، تأتي الموجات المدمرة من الصواريخ الباليستية والصواريخ الفرط الصوتية، لتجد طريقها إلى أهدافها بدقة أكبر. كان اختيار الأهداف في غاية الذكاء، حيث ركز على كسر "كعب أخيل" الإسرائيلي: جبهتها الداخلية الهشة وبنيتها التحتية الحيوية.

في حيفا، تحول مجمع "بازان" لتكرير النفط إلى كتلة من اللهب، في ضربة لم تكن اقتصادية فحسب، بل كانت رمزية مؤلمة لقلب الصناعة الإسرائيلية، وأدت إلى توقف المصافي بالكامل. وفي تل أبيب الكبرى، انهارت مبانٍ سكنية، وتناثر حطام الصواريخ قرب السفارة الأمريكية، وتحول الشعور بالأمان لدى ملايين الإسرائيليين إلى هلع ورعب، وأصبح دوي صفارات الإنذار هو الصوت المهيمن في مدنهم. لقد نجحت إيران في فرض معادلة "الألم مقابل الألم"، وحطمت أسطورة الجبهة الداخلية المحصنة، وأثبتت أن لديها القدرة على إيلام إسرائيل في عقر دارها بشكل لم تتوقعه أعتى أجهزتها الاستخباراتية. في هذا السياق، نقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية عن وزير مالية الاحتلال بتسليئيل سموتريتش أنه جرى التعامل مع 14583 حالة من الأضرار المباشرة، الناجمة عن الضربات الإيرانية على "إسرائيل"، وإجلاء 2775 من المستوطنين.

بعد أن فقدت زمام المبادرة وتلقت رداً موجعاً، وجدت إسرائيل نفسها في حرب لم تخطط لها. لم تعد حرباً خاطفة، بل حرب استنزاف مفتوحة. هنا، تغيرت استراتيجيتها. فبدلاً من التركيز على الأهداف العسكرية فقط، انتقلت إلى حرب نفسية ورمزية. كان قصف مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي في طهران اعترافاً ضمنياً بأن إيران كانت تكسب حرب الرواية. كانت محاولة يائسة لإسكات الصوت الرسمي الإيراني، وبث رسالة فوضى وشك بين المواطنين. هذا التحول التكتيكي من استهداف الأصول العسكرية إلى استهداف الأصول الإعلامية والرمزية يعكس محاولة يائسة لاستعادة المبادرة بعد فقدانها.

بالتوازي مع هذه المواجهة المباشرة، كان هناك مسرح عمليات آخر لا يقل أهمية وخطورة، وهو الجبهة الداخلية الإيرانية. لقد كشفت الأحداث عن أن إحدى أهم أوراق القوة الإسرائيلية هي شبكة عملاء "الموساد" المتغلغلة في العمق الإيراني. إعلان السلطات الإيرانية عن تفكيك خلايا واعتقال المئات، وتفعيل دوريات "الباسيج" ونقاط التفتيش الليلية، وإصدار أوامر قضائية بتنفيذ أحكام الإعدام بسرعة بحق المتواطئين، كل ذلك يؤكد أن النظام الإيراني وجد نفسه يخوض حرباً على جبهتين في آن واحد: جبهة خارجية ضد الجيش الإسرائيلي، وجبهة داخلية صامتة ضد "طابور خامس" يعمل على تنفيذ عمليات تخريب وإطلاق طائرات مسيّرة صغيرة من داخل المدن الإيرانية لإرباك الدفاعات وخلق حالة من انعدام الأمن. لقد نجحت إسرائيل في تفعيل هذه الجبهة بشكل فعال، مما شكل استنزافاً للموارد الأمنية الإيرانية.

مع بزوغ فجر السابع عشر من حزيران/ يونيو، دخل الصراع طوراً جديداً من التصعيد، صلية جديدة من الصواريخ تنطلق من إيران باتجاه "إسرائيل"، والإعلام الإسرائيلي يقر بأن "الصلية الجديدة أكبر من سابقاتها"، وأن أحد الصواريخ استهدف منشأة تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية"أمان".

وبدأت الأبعاد الدولية تلقي بظلالها الثقيلة على مسرح العمليات. كان تحريك الولايات المتحدة لحاملة الطائرات "يو إس إس نيميتز" نحو المنطقة، وتوجيه وزير الدفاع الأمريكي بنشر تعزيزات دفاعية، بمثابة رسالة ردع استراتيجية واضحة. لم يكن هذا التحرك يهدف بالضرورة إلى المشاركة المباشرة في القتال، بل إلى رسم محيط آمن حول الصراع، وتحذير إيران من مغبة استهداف المصالح الأمريكية أو تهديد الملاحة الدولية في مضيق هرمز، وربما أيضاً لكبح جماح الحليف الإسرائيلي من اتخاذ خطوات قد تشعل حرباً إقليمية شاملة لا ترغب فيها واشنطن.

لكن التطور الأكثر خطورة في هذا اليوم جاء من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه. بتغريدته التي دعا فيها "الجميع إلى إخلاء طهران فوراً" كتصعيد غير مسبوق، يتجاوز حدود الضغط الدبلوماسي المعتاد. هذا التصريح يفتح الباب أمام تفسيرين، كلاهما ينذر بالسوء. فإما أنه كان مناورة ضمن استراتيجية "الضغط الأقصى" لدفع القيادة الإيرانية إلى قبول صفقة نووية بشروط أمريكية، أو أنه كان بمثابة ضوء أخضر أمريكي مبطن لإسرائيل لشن هجوم كارثي على العاصمة الإيرانية، ربما باستخدام أسلحة ذات قدرة تدميرية هائلة، بهدف القضاء على رأس النظام. لقد وضع هذا التصريح المنطقة والعالم على حافة الهاوية، حيث أصبح شبح ضربة كبرى لمدينة يسكنها الملايين احتمالاً وارداً.

في خضم هذا التصعيد العسكري والسياسي، بدت الجهود الدبلوماسية الدولية عاجزة تماماً. دعوات مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي إلى التهدئة والعودة للمفاوضات بدت وكأنها بيانات شكلية تفتقر إلى أي تأثير حقيقي على الأرض. فكلا الطرفين كان قد تجاوز نقطة الحسابات. بالنسبة لنتنياهو، تحولت الحرب إلى معركة بقاء سياسي وشخصي. وبالنسبة للدولة الإيرانية، أصبحت معركة وجودية للدفاع عن سيادتها وكرامتها.

وهنا تكمن المفارقة الاستراتيجية الكبرى التي أفرزتها هذه الحرب. إن الهجوم الإسرائيلي، الذي كان هدفه المعلن (الملفق) هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي، قد يكون هو العامل الحاسم الذي سيدفع طهران بقوة نحو هذا الخيار. ففي مواجهة عدو متفوق تكنولوجياً ومدعوم من القوى الكبرى في العالم، قد تصل القيادة الإيرانية إلى قناعة بأن الردع التقليدي لم يعد كافياً، وأن القنبلة النووية هي "بوليصة التأمين" الوحيدة التي تضمن البقاء. إن الأنباء التي تحدثت عن إعداد البرلمان الإيراني لمشروع قانون للانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي هي المؤشر الأخطر على هذا التحول الفكري العميق.

في الختام، يمثل يوما السادس عشر والسابع عشر من يونيو 2025 لحظة الحقيقة. لقد أثبتت إيران أنها تمتلك الإرادة والقدرة على إيلام إسرائيل في عمقها بشكل غير مسبوق، محطمةً بذلك جزءاً كبيراً من هيبة الردع الإسرائيلية. وفي المقابل، أثبتت إسرائيل أنها لا تزال تمتلك قدرة على إحداث دمار كبير، وأنها قادرة على استغلال نقاط الضعف الداخلية لخصمها. لكن النتيجة النهائية هي أن كلا الطرفين خرج من هذين اليومين بخسائر، وبقواعد اشتباك عالية السقوف، وبمستقبل أكثر خطورة. لقد انتهت حقبة حرب الظل، وبدأت مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة التي قد تكون مجرد مقدمة لصراع أوسع وأكثر تدميراً، صراع أصبح فيه الخيار النووي، لأول مرة، احتمالاً حقيقياً وملموساً على الطاولة.

تحليل التكتيكات والأداء العسكري للطرفين:

الكيان المؤقت:

نقاط القوة:

- التفوق الجوي: قدرة متفاوتة على تنفيذ ضربات جراحية دقيقة في عمق العدو.

- الاختراق الاستخباراتي: شبكة عملاء فعالة داخل إيران مكنتها من تحقيق نجاحات نوعية (اغتيالات، تخريب).

- المرونة التكتيكية: القدرة على التحول السريع بين أنواع الأهداف (نووية، عسكرية، إعلامية).

نقاط الضعف:

- هشاشة استراتيجية: الجبهة الداخلية شديدة الحساسية للخسائر البشرية والاقتصادية. إسرائيل كدولة حديثة تعتمد على الاستقرار، لا تستطيع تحمل حرب استنزاف طويلة ومكلفة (300 مليون دولار يومياً حسب التقديرات).

- سوء التقدير السياسي: فشلت قيادة نتنياهو في قراءة العقلية الإيرانية، واعتقدت أن قواعد الاشتباك القديمة ما زالت سارية، ففوجئت بحجم الرد.

- الاعتماد على المظلة الأمريكية: رغم الدعم، فإن حذر إدارة ترامب من التورط المباشر يضع حدوداً لمدى وقوة العمليات الإسرائيلية.

إيران:

نقاط القوة:

- الردع الصاروخي: أثبتت أن ترسانتها الصاروخية هي سلاح فعال لفرض معادلات جديدة، قادرة على تجاوز الدفاعات الإسرائيلية المتطورة عبر تكتيكات الإشباع.

- العمق الجغرافي والسكاني: القدرة على امتصاص الضربات وتحمل الخسائر بشكل أكبر بكثير من إسرائيل، مما يمنحها الأفضلية في حرب طويلة الأمد.

- الصمود النفسي: يمتلك النظام الإيراني خبرة في حشد الداخل وتعبئته في وجه التهديدات الخارجية، وهو ما ظهر في استمرار التصريحات المتحدية.

نقاط الضعف:

- الثغرة الأمنية الداخلية: يمثل الاختراق الإسرائيلي الواسع "سرطاناً داخلياً" يهدد الاستقرار من الداخل ويستنزف قدراته الأمنية.

- الفجوة التكنولوجية الدفاعية: رغم بعض النجاحات (إسقاط مسيّرات)، لم تتمكن الدفاعات الجوية الإيرانية من إنشاء مظلة حماية فعالة ضد الهجمات الإسرائيلية النوعية.

- العزلة الدولية: تقف إيران مع حلفاء غير مؤثرين في السياسة الدولية وتقف وحيدة تقريباً في هذه المواجهة المباشرة، مما يضعف موقفها الدبلوماسي ويحد من خياراتها.

تقدير للأحداث في 16 و17 يونيو 2025

يمثل هذان اليومان ذروة التصعيد ونقطة التحول الحاسمة في الحرب. لقد تبلور الصراع من ضربة إسرائيلية خاطفة إلى حرب استنزاف مفتوحة. كل طرف كشف عن أوراقه الرئيسية، وباتت المواجهة معركة إرادات وكسر عظم، تجري تحت ظل التدخلات الدولية والتهديدات المتصاعدة.

تحليل الأحداث الرئيسية وتداعياتها:

16-6-2025: يوم فرض المعادلات الجديدة:

- إيران ترفع سقف المواجهة: إعلان الحرس الثوري عن "الموجة التاسعة" واستخدام صواريخ فرط صوتية لم يكن مجرد رد فعل، بل كان إعلاناً عن استراتيجية هجومية جديدة. نجاح إيران في شل مصافي حيفا وإيقاع هذا العدد من القتلى في العمق الإسرائيلي أثبت أنها قادرة على إلحاق أذى استراتيجي، وليس فقط أذى تكتيكياً.

- إسرائيل تنتقل للحرب النفسية: قصف مبنى التلفزيون في طهران هو اعتراف ضمني بأن الضربات العسكرية وحدها لم تنجح في ردع إيران. لجأت إسرائيل إلى استهداف الرموز السيادية والإعلامية في محاولة يائسة لكسر الإرادة الإيرانية وإثارة البلبلة الداخلية.

- إيران تحارب على جبهتين: الحملة الأمنية الواسعة داخل إيران، وتفعيل دوريات الباسيج، وإعدام "الجواسيس"، تكشف أن النظام يدرك تماماً أن الخطر الأكبر قد يأتي من الداخل. الحرب أصبحت خارجية وداخلية في آن واحد.

17-6-2025: يوم التدويل والخطر الأقصى:

- دخول العامل الأمريكي بقوة: تحريك حاملة الطائرات USS Nimitz ليس مجرد إجراء روتيني. إنه رسالة ردع مزدوجة: لإيران، لمنعها من استهداف المصالح الأمريكية أو إغلاق مضيق هرمز. ولإسرائيل، ربما كبح جماحها عن القيام بعمل قد يورط واشنطن بشكل كامل.

- خطاب ترامب الخطر: تصريحات ترامب في هذا اليوم كانت محورية. دعوته "الجميع لإخلاء طهران فوراً" هي تصعيد لفظي غير مسبوق. يمكن تفسيرها بأحد أمرين: إما أنها مجرد حرب نفسية وضغط لجر إيران إلى طاولة المفاوضات بشروط أمريكية، أو السيناريو الأخطر: أنها ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لشن هجوم مدمر وشامل على العاصمة طهران، ربما باستخدام أسلحة غير تقليدية.

- الدبلوماسية العاجزة: دعوات مجموعة السبع وأوروبا للتهدئة تبدو وكأنها همس في وسط عاصفة. ففي ظل إصرار إيران على الرد وإصرار إسرائيل على استكمال "القضاء على التهديد"، لا تملك الدبلوماسية أي أوراق ضغط حقيقية في هذه المرحلة.

لقد حطمت هذه الحرب كل الخطوط الحمراء. لم تعد المسألة "هل ستندلع الحرب؟" بل "إلى أي مدى ستصل؟".

خلاصة واستنتاج:

- التحليلات تشير إلى مفارقة خطيرة: الهجوم الإسرائيلي الذي هدف إلى منع إيران من امتلاك سلاح نووي، قد يكون هو الدافع الأقوى الذي سيجعل طهران ترى في القنبلة النووية "الضمانة الوحيدة للبقاء" إعلان إيران أنها تعد مشروع قانون للانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي هو الخطوة الأولى في هذا الطريق.

- بالنسبة لنتنياهو، أصبحت هذه الحرب معركة بقاء سياسي وشخصي. وبالنسبة للنظام الإيراني، أصبحت معركة بقاء للنظام نفسه. عندما تصل الحروب إلى هذا المستوى، يصبح من الصعب التنبؤ بسلوك الأطراف أو توقع أي تعقل.

- يمثل يوما 16 و17 -6- 2025 حقبة جديدة ومظلمة من المواجهة المباشرة والمفتوحة، حيث بات شبح الحرب الإقليمية الشاملة، بل والنووية، يلوح في الأفق بشكل لم يسبق له مثيل.





روزنامة المحور