لم يكن الهجوم الإيراني الأخير على "إسرائيل" – تحت مسمى "الوعد الصادق 3" – مجرد رد فعل على ضربة "إسرائيلية" وقائية، أو حتى انتقامًا محسوبًا لقادة وعلماء اغتيلوا في عمق الجغرافيا الإيرانية. بل كان بمثابة إعلان صريح عن ولادة مرحلة جديدة من الصراع في الشرق الأوسط: مرحلة ما بعد الغموض. لقد دخلنا عهد الضربات المباشرة، والمواجهة العلنية بين محورين لا يتنازلان.
هذا المقال لا يسعى لتتبع تطورات الهجوم ساعة بساعة، ولا لعدّ الصواريخ والمصابين، بل لتحليل ما يعنيه هذا التصعيد في موازين الردع، وما يكشفه من تناقضات جوهرية في النظام الدولي الذي يتغاضى عن المعتدي حين يكون حليفه، ويجرّم الضحية حين ترد.
الاشتباك المباشر مع "إسرائيل"
شنت طهران هجومًا مباشرًا وواسعًا على إسرائيل، بمئات الصواريخ الباليستية، وعشرات المسيّرات، مستهدفة قلب الكيان، وموقعة عشرات الإصابات، ومحدثة دمارًا غير مسبوق، بحسب الإعلام "الإسرائيلي" نفسه.
السياق: نتنياهو في الزاوية، وإيران تخشى التهديد الوجودي
في خطابه فجر الجمعة، تحدث بنيامين نتنياهو بلغة لم يعتدها الداخل "الإسرائيلي" في العقود الأخيرة. وصف إيران بأنها تشكل تهديدًا وجوديًا مباشرًا "لإسرائيل"، متذرعًا بـ"النووي الإيراني"، ليبرّر ضربات موسّعة على منشآت حيوية، بينها نطنز وخنداب، وقادة عسكريون وعلماء كبار.
لكن هذا الخطاب يخفي كثيرًا. أولًا، لأن "النووي الإيراني" ليس تطورًا طارئًا؛ إنه برنامج يعود لعقدين. ثانيًا، لأن التوقيت لا ينفصل عن مأزق حكومة نتنياهو، العالقة في مستنقع غزة، والمثخنة بأزمة داخلية خانقة، ووضع سياسي مهدد بالسقوط. هو هجوم استباقي بحساب داخلي قبل أن يكون استراتيجيًا.
أما إيران، فإنها تقرأ المشهد على نحو وجودي: إضعاف ردعها الإقليمي، وتصفيه قادتها، هو تهديد مباشر لبقائها كقوة مستقلة، لا سيما في ظل التهافت الإقليمي للتطبيع مع "إسرائيل".
البنية التحتية للردع الإيراني: لماذا الصواريخ؟
إيران تعرف أنها لا تملك قوة جوية تضاهي "إسرائيل" أو أميركا. لا مقاتلات إف-35 ولا قواعد عسكرية ممتدة. لكنها استثمرت منذ سنوات طويلة في "الردع غير المتماثل" المعتمد على أمرين: الصواريخ الباليستية الدقيقة، والطائرات المسيّرة.
وفي الهجوم الأخير، كشفت إيران عن امتلاكها ما يمكن تسميته "سلسلة تصعيدية طبقية":
ورغم تكتم "إسرائيل" على المواقع التي أصيبت، فإن حجم الدمار في تل أبيب ورمات غان وريشون ليتسيون، وتضرر مبانٍ عالية، وعشرات السيارات والمنازل، يشير إلى أن نسبةً من الصواريخ قد نجحت في اختراق الدفاعات.
انهيار أسطورة "الردع الكامل"
منذ عام 2006، بنت "إسرائيل" خطابها الاستراتيجي على مفهوم الردع المطلق: أي أن عدوها لن يجرؤ على ضربها مباشرة، خوفًا من العقاب الساحق. لكنها في 2024، تلقت ثلاث ضربات من إيران، حملت الاسم نفسه: الوعد الصادق 1 و2 و3. وفي كل مرة يتسع نطاق الأهداف.
ما الذي تغيّر؟
النتيجة؟ تل أبيب لم تعد بعيدة عن النار، بل في قلبها.
الهروب إلى الأمام: هل تسعى "إسرائيل" لحرب كبرى؟
حين يشعر كيان استعماري بتهديد وجودي حقيقي، لا يلجأ إلى المهادنة. "إسرائيل" تعرف أن ميزان القوة بدأ يختل، ليس فقط بسبب إيران، بل بسبب المتغيرات الإقليمية في اليمن والعراق و ولبنان وسوريا وغزة. لذلك، تسعى لحرب كبرى، أو على الأقل لا تمانع فيها، طالما أنها قد تغيّر قواعد اللعبة لصالحها.
لكن المعضلة أن هذه الحرب لم تعد مضمونة النتائج. فالغزو البري في غزة فشل في تحطيم حماس. الهجمات الجوية على لبنان واليمن لن تُسكت الصواريخ. وضرب إيران فجّر ردًّا غير مسبوق. كل ذلك يعني أن إسرائيل تقاتل الآن في كل الاتجاهات، بينما تتراجع قدرتها على الحسم.
الإعلام الغربي: الصمت حين تكون الضحية "غير بيضاء"
من اللافت في كل هذه التطورات، هو موقف الإعلام الغربي، الذي يستنفر حين تسقط صواريخ على كييف أو خاركيف، لكنه يلتزم الصمت حين يسقط مئات الصواريخ على غزة أو طهران.
هذا الانحياز لا يعكس فقط ازدواجية في الأخلاق، بل يؤكد أن النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد يصلح لفهم – أو ضبط – ما يجري في الشرق الأوسط اليوم.
ما بعد "الوعد الصادق 3": أسئلة المرحلة المقبلة
لكن الأهم من كل ذلك:
هل سيفهم العالم أن "إسرائيل" لم تعد تمثل "الحصن الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط"، بل عملاً لعدم الاستقرار المنطقة، وطرفًا في صراع يتصاعد خطه البياني باتجاه الهاوية؟
الرعب الذي كُشف عنه القناع
لقد حملت عملية "الوعد الصادق 3" رسالة أكبر من عدد القتلى والمصابين. لقد قالت بصراحة: لن تبقى تل أبيب بمنأى عن الرد. لن تكون الحروب أحادية الاتجاه. لن تعني الضربات الجوية نهاية الخصوم.
العالم اليوم أمام قوة إقليمية، إيران تقول "أنا موجودة" بلغة الحديد والنار، وكيان استيطاني "إسرائيل" يفقد صواب الردع، ويواجه خيارين: الانكفاء أو الانفجار.
وما بين هذا وذاك، شعوب الشرق الأوسط تدفع ثمن صمت العالم، وعهر النظام الدولي، وازدواجية "التحضر الغربي".
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]