الإثنين 22 أيار , 2023 01:57

هكذا تثّبت الصين موقعها الآسيوي

خريطة دول آسيا الوسطى وعلم الصين

تطور الصين دورها بهدوء وجدية على مسرح آسيا فكما يبدو أنه بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني إنتقلت من الخطوات الصغيرة الى الخطوات الكبيرة، والواضح أنها بدأت تستغل الانزياح الأمريكي عن خريطة آسيا والتحول في النظام العالمي لتثبت موقعها الإقتصادي والتنموي مع الأقاليم الكبيرة الواقعة على خط مبادرتها العالمية "الحزام والطريق".

لا شك أن الولايات المتحدة تدرك الدور الكبير الذي تقوم به الصين لتعبئة الفراغ الناتج عن تراجعها فتحاول عرقلة التوجه الصيني لتحويل الدول الآسيوية بشكل خاص الى دول ذات استقلالية عن القرار الأمريكي بإستعمال ثلاثية التطرف والإرهاب والإنفصال وما يسميها الصيني "بشجرة الشر"، وهي ما أشار إلية الرئيس الصيني بشكل واضح في خطابه في قمة الصين ووسط آسيا.

وفي هذا السبيل وقبل حوالي سنة من الآن حاول الأمريكيون قلب النظام في كازاخستان وإدخال نموذج الثورة الملونة إليها في محاولة لتدمير هذه الدولة وتعميم النموذج على باقي دول وسط آسيا إلا أن التعاون الصيني الروسي والتدخل الروسي المباشر عبر رابطة الدول المستقلة قضى على المشروع الأمريكي الذي يرى بأن إدخال إقليم وسط آسيا يعرقل أو يدمر مبادرة الحزام والطريق في تلك المنطقة، ويقطع الشريان الاقتصادي الصيني الذي يمر في تلك المنطقة الى أوروبا، وعلى هذا النسق تم تدمير خط الغاز الروسي نورد ستريم في بحر البلطيق.

أهمية قمة الصين آسيا الوسطى

بغض النظر عن الإتفاقيات الثنائية بين دول آسيا الوسطى والصين على سبيل إلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها وتسهيل العبور على الحدود والتعاون الثقافي والتعليمي الذي تقدمه الصين على شكل هدايا لهذه الدول إلا أن صلب التعاون هو في المجال الإقتصادي والتنموي والذي يعد ربحاً كبيراً للطرفين.

فالصين الجائعة للموارد الأولية تجد في هذه الدول الكنز الكبير والموجود في محيطها مباشرة أي بشكل أساسي إحتياطات النفط والغاز والمعادن الكامنة في هذه الدول والتي لم تستغل إلا بنسب محدودة، وكذلك فدول آسيا الوسطى هي دول قاريّة حبيسة ليس لديها منافذ بحرية تؤهلها للاستغلال مع ثرواتها الضخمة لتتحول إلى دول متقدمة اقتصاديا، وخاصة أن كلفة النقل البري وخطوط الأنابيب التي تنقل النفط والغاز لمسافات طويلة تجعل الكلفة عالية بالمقارنة مع النقل البحري.  

لذا فإن قرب المسافة مع الصين والمبالغ التي تريد الصين استثمارها في مبادرة الحزام والطريق تستطيع أن تتحمل هذه الكلفة العالية وخاصة أنها مبادرة متشعبة لا تختص فقط بالمجال الطاقوي، فمثلا سكك الحديد التي تعبر هذه الدول لن تنقل فقط المواد الأولية إنما ستكون خطوط نقل لكافة منتجات الصين، وستتيح شبكة السكك الصينية وصل هذه الدول بموانىء البحر الأصفر الصيني وميناء فلاديفوستوك الروسي، وكذلك شبكة الأنابيب التي ستكون لنقل النفط الخام والغاز الى الصين وبمثابة البديل الإستراتيجي لنفط الشرق الأوسط في حال تحول الصراع مع الولايات المتحدة ويتواءم ذلك مع حل أزمة المياه العذبة بين دول وسط آسيا التي لا زالت تعاني من مشكلة مياه من ما بعد الحقبة السوفياتية، فإن حل مشكلة المياه لهذه الدول سينقل الواقع الزراعي لها الى مكان متقدم وسيحل المشكلة بين هذه الدول القائمة على النزاع المائي، ومع تعزز الإقتصاد العام لدول وسط آسيا وتنويع مصادره الى أبعد من الزراعة والنفط ودخول الإستثمارات الصينية بشكل أكبر تنتفي المشاكل القائمة على النزاع المائي بينها ويصبح هذ الإقليم أكثر استقراراً مما يعود بالنفع عليها وعلى الصين والدول المجاورة.

تبلغ حصة التجارة الصينية مع دول وسط آسيا حولي 1% من التجارة الخارجية للصين، وهذا ما يعني أن التنمية لا زالت في حدودها الدنيا، ومع تطوير العلاقات سيكون هناك مجال أكبر للتنمية خاصة مع التراجع في العلاقات التجارية بين الصين والغرب بشكل عام أي أن الصين تبحث عن شركاء آخرين وأفضل ما يكون هم جيرانها. 

 لذا فإن هذه القمة التأسيسية ستذيب الكثير من العقبات بين دول وسط آسيا نفسها وكذلك ستفتح طريقا آمناً ومستداماً للتجارة الصينية باتجاه روسيا وتركيا وأوروبا.

الحالة الإقتصادية والتجارية بين دول وسط آسيا والصين

أقامت الصين علاقات دبلوماسية مع دول وسط آسيا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وقد كان التبادل التجاري عام 1992 حوالي 460 مليون دولار، وزادت النسبة الى حوالي 70 مليار دولار عام 2022، وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لقيرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان، وثاني أكبر شريك لكازاخستان، وثالث أكبر شريك لطاجيكستان.

بحسب وزارة التجارة الصينية شهد حجم التجارة الثنائية نمواً بنسبة 40% في عام 2022 مقارنة بعام 2021 واستمرت النسبة بالتوسع، ووصلت في الربع الأول من هذا العام الى 22%، وقد قفزت واردات الصين من المنتجات الزراعية والطاقة والمعادن من الدول الخمس بنسبة تزيد عن 50% مقارنة بالعام السابق، بينما زادت الصادرات الصينية الإلكترونية والميكانيكية اليها عن 42%، ووصل حجم المشاريع الاستثمارية الصينية المنجزة في دول وسط آسيا الى 63.9 مليار دولار.

من المتوقع أن تتحول دول وسط آسيا الى مركز للإستثمارات الصينية فالتحول الصناعي والتكنولوجي الصيني بحاجة الى توسع جغرافي في الإستثمارات فهذه الدول لديها مساحات ضخمة وعدد سكان قليل لا يتجاوز ال 60 مليون نسمة وثروات طبيعية كبيرة فالتعاون الصيني ـ الوسط آسيوي يجعل من هذه الدول ترتقي الى مستوى متطور على كافة الصعد الإقتصادية وتصبح مركز جذب ليس فقط للإستثمارات الصينية إنما كافة الدول المحيطة كروسيا والجمهورية الإسلامية وتركيا وكل دولة حسب قدرتها وحاجتها إلا أن الصين ستكون الرائدة في هذا المجال.

التعاون في المجال الأمني

مجمل التعاون الأمني بين دول وسط آسيا والصين يتمحور حول مكافحة الإرهاب ومنع التدخل الأمريكي عبر التحريض الداخلي وهو ما أشار اليه الرئيس الصيني في خطابه في القمة عندما تحدث عن الثورات الملونة، كذلك التعاون بشأن الحالة الأفغانية اثناء الوجود الأمريكي وبعده.

تقيم الصين علاقات تعاون دفاعي مع دول وسط آسيا لا سيما طاجيكستان خاصة بسبب الحدود المشتركة بينها وبين افغانستان وما يعرف بممر "واخان" الأفغاني الصيني، وتجري تدريبات ومناورات دورية مع القوات الطاجيكية، كما تشارك مع باقي الدول بمناورات مشتركة أغلبها في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، وإضافة الى ذلك فإن معظم دول وسط آسيا تشتري أسلحة من الصين عبارة عن طائرات مسيّرة وعربات مدرعة وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات.

خلاصة

هناك العديد من المنصات الدولية للتعامل مع دول وسط آسيا منها رابطة الدول المستقلة التي ترأسها روسيا وتضم الى جانب دول وسط آسيا بيلاروسيا وأرمينيا، وكذلك رابطة الدول التركية والتي ترأسها تركيا بإعتبار أن شعوب هذه المنطقة هم من التركمان، وكذلك فإن الأمريكيين والأوروبيين واليابانيين لديهم منصات حوار مع هذه الدول، إلا أن كل هذه المنصات لم تستطع أن تقدم لهذه الدول القدرة على تطوير إقتصادها وتحويلها إلى دول منتجة وليس فقط دول تبيع النفط والغاز وبعض المواد الأولية مع عدم إمتلاكها قدرة على المنافسة بسبب وجودها في عمق قارة آسيا وبعدها عن البحار مما يصعب عليها موضوع النقل والتجارة، وبدخول الصين من باب تطوير البنية التحتية للنقل ووصل هذه الدول بالعالم وإدخال التكنولوجيا الصينية إليها سيجعل وجودها على الخريطة العالمية ذا جدوى نتيجة الحاجة الجيوسياسية الصينية والإقتصادية والإستثمارية فمع فتح هذا الباب سيستطيع المستثمرن الصينيون نقل العديد من الصناعات ذات الكلفة المنخفضة الى هذه الدول وبالتالي سيكون العائد مربح للطرفين.

إضافة إلى مشروع النقل الهائل نحو أوروبا وروسيا وتركيا فسيصبح الوصول من وإلى هذه الدول أقل تكلفة، والإمساك في مشروع النقل الصيني يستلزم في نفس الوقت التوأمة مع ما يسمى طريق الحرير الرقمي وهذا ما سيدخل هذه الدول ضمن إطار الرقمنة  الصينية ومكننة الإدارات العامة، وهذا ما سينعكس على الآداء العام لهذه الدول على سبيل مكافحة الفساد وغيره مما يحدث في الدول النامية، وبالتالي تماسك هذه الدول اقتصاديا وإدارياً سيوسع مجال الإستثمار ويثبت العامل الأمني ـ الإقتصادي وهذا ما سيحسب للصين من ناحية كونها المظلة الإقتصادية للتنمية التي تعزز دور الإستقلال الإقليمي للدول وتعزز الحضور الصيني في الإقتصاد العالمي وفي السياسة العالمية تحت عنوان التنمية السلمية والإنفتاح السلمي على العالم وكما تحدث الكتاب الأبيض الصيني عن تطور العولمة الإقتصادية سعيا وراء تحقيق المنفعة المتبادلة والربح المشترك والتنمية المشتركة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب: محمد ابراهيم




روزنامة المحور