الجمعة 07 نيسان , 2023 02:21

الدولار لم يعد مغرياً... ماذا عن البديل؟

تراجع هيمنة الدولار

اشتهر الزعيم والمفكر الروسي فلاديمير لينين بمقولة "أن هناك عقوداً لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها العقود دفعة واحدة". تلخّص هذه المقولة الفترة الممتدة منذ عام 1973 عند إعلان الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، وفاة اتفاقية "بريتون وودز"، إلى اليوم، الذي يشهد فيه العالم اعتراف صريح من رئيس أميركي، بأن "الدولار لن يكون هو العملة العالمية قريباً...إنها هزيمة غير مسبوقة في 200 عام". وفي الوقت الذي يشهد العالم حشداً هائلاً من الأحداث التي تشكّل نظامَ العالم الجديد، الذي تتراجع فيه "القدرة على العقاب" نتيجة تراجع هيمنة الدولار، كما وصفها السيناتور الأميركي ماركو روبيو، في مقابلة له قبل يومين على قناة فوكس نيوز، يُفرَض جدلٌ حقيقيّ حول مركزية الولايات المتحدة كقطب أحاديّ، ويُنتج سؤالاً محوريّاً تتردد أصداؤه في المكتب البيضاوي: ما هو مصير الدولار في عالم متغيّر؟

كيف تراجعت قيمة الدولار؟

بعد 21 عاماً على مؤتمر "بريتون وودز"، عام 1944، وقف الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، في معهد سميثسونيان بواشنطن، وأعلن خلال خطاب متلفز، "وفاة الاتفاقية" وفك ارتباط الدولار بالذهب، مهدداً الدول، خاصة ألمانيا الغربية واليابان، ما لم تقم بزيادة قيمة عملاتها مقابل الدولار. كانت الأحداث الداخلية والدولية المتتالية تثير شهية الرؤساء المتعاقبين على تثبيت الدولار كعملة عالمية، وهو ما نجح به، هنري كسينجر، بربطها بالنفط بعد حرب أكتوبر عام 1973. حينها، كانت تُعَد الولايات المتحدة قوة صاعدة، تقطف ثمار الحرب العالمية الثانية، فيما يرزح حلفاؤها تحت عبء إعادة الاعمار.

عقب الإعلان الذي عرف بـ "صدمة نيكسون"، ونتيجة طباعة الدولار دون تغطية، اشتهرت مقولة تداولها الأميركيون حينها: "الدولار مدعوم من الإيمان والائتمان الكاملين من حكومة الولايات المتحدة".

لا تزال العواقب طويلة المدى لهذه الصدمة والطريقة التي تمت بها إدارة تداعياتها تُرى في نظام اليوم، لجهة أسعار الصرف العائمة التي تعمل في سياق تدفقات رأس المال الخاص غير المقيدة تقريباً. وقد أدى ذلك، الذي تم إنشاؤه بطريقة غير منظمة بما يكفي، إلى تعزيز مرونة الاقتصاد العالمي للاستجابة للصدمات بشكل أكبر.

كان موقف السياسة الدولية "لأمريكا أولاً" مدفوعًا بالضغوط السياسية المحلية المرتبطة بحرب فيتنام، أضف إلى ذلك، التحديات الاقتصادية الهائلة التي تراكمت في الولايات المتحدة خلال الستينيات، بما في ذلك ارتفاع معدل التضخم والعجز المالي، الذي تسبب الإنفاق على الحرب، بجزء منه. ومع توالي الأزمات المالية حول العالم، إضافة لعدد من العوامل الأخرى، جعلت من الدولار يشهد تراجعاً بطيئاً لم يكن يلحظ، خاصة في البلدان النامية. في حين كانت أزمة 2008 بمثابة "جرح عميق" ظل وشماً بارزاً على النظام المالي العالمي، لم يشفَ العالم منه إلى الآن، حتى انّ أي أزمة مالية حدثت مؤخراً، كانت تحمل بصماتها.

تسليح الدولار

لطالما كانت العقوبات سلاحاً دبلوماسياً مفضّلاً لدى واشنطن. إلا ان المبالغة في استخدامه،-يتراوح حجم الأشخاص والكيانات التي على لائحة العقوبات الأميركية، حوالي 16435 و22774 بحسب إحصاءات وزارتي الخارجية والخزانة-، دفع العديد من الدول لاعتماد أساليب تحمي اقتصاداتها ضد هذه الإجراءات.  

ثلاثة أحداث خلال العقد الماضي، تركت أثراً عميقاً لدى شريحة واسعة من الدول، أقنعتهم بسلوك هذا المسار، بعضهم خوفاً من أن يكون هو التالي:

 -عام 2012، قطعت الولايات المتحدة إيران عن نظام SWIFT.

-عام 2014، فرضت الدول الغربية عقوبات على روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، مما دفع موسكو إلى جعل الاستقلال الاقتصادي أولوية.

-عام 2017، بدأت الولايات المتحدة حربًا تجارية مع الصين، والتي سرعان ما امتدت إلى القطاع التكنولوجي. من خلال تقييد تصدير المعرفة الأميركية بأشباه الموصلات إلى بكين، وهو انذار أميركي للخصوم بقدرتها على منع وصولهم إلى التكنولوجيا المهمة.

أدت هذه الحلقات الثلاث إلى ظهور ظاهرة جديدة: "مقاومة العقوبات". ويقول خبير وباحث اقتصادي -فضّل عدم الكشف عن اسمه- في حديث خاص لموقع "الخنـادق"، ان "قوة واشنطن في فرض العقوبات، تنبع من أولوية الدولار الأميركي ونطاق رقابة الولايات المتحدة على القنوات المالية العالمية. من المنطقي أن تسعى الدول إلى ابتكارات مالية تقلل من مزايا الولايات المتحدة". موضحاً ان قوة الدولار تأتي من أمرين: أولاً، مدخرات الدول والأشخاص والكيانات هي بالدولار، وغالبيتها موجودة في البنوك الأميركية أيضاً. ثانياً، ارتباط سوق الأسهم والسلع به، إضافة إلى ان البنوك حول العالم تشتري الدولار للحفاظ على استقرار عملتها، كلبنان والعراق... وهذا يعني ان الدولار هو عملة تدخير وعملة تداول.

ويشير الخبير في السياسات المالية الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، انه بعد قيام كل من الصين والهند وروسيا وايران، إضافة للسعودية والبرازيل وفنزويلا وفرنسا... باستبعاد الدولار عن المبادلات التجارية بينهم، ضعفت قيمة الدولار كعملة تداول، بينما لا يزال يحافظ على قيمته كعملة تدخير.

منذ عقود مضت، كانت كل الموارد والطاقات الإنتاجية والسلع والخدمات على مستوى العالم هي بمثابة رقعة نقدية شاملة يغطيها الدولار. في الآونة الأخيرة، ومع بدء الجهود باستبعاد الدولار عن المبادلات التجارية بين عدد من الدول، تقلصت حجم الرقعة النقدية التي يغطيها. وعندما يتراجع حجم الرقعة النقدية يتراجع الطلب على العملة الأميركية.  

خلال مقابلة قناة فوكس نيوز، أعرب السناتور ماركو روبيو عن قلقه من أن واشنطن "لن تتحدث عن العقوبات خلال خمس سنوات ... لأننا لن نمتلك القدرة مجدداً على فرض عقوبات". وقال إن الصينيين يعملون الآن على إنشاء "اقتصاد ثانوي" في جميع أنحاء العالم - اقتصاد مستقل عن الدولار وواشنطن-.

كان اعتراف روبيو، مُكمّلاً لما قاله دونالد ترامب، في فلوريدا، بعد ساعات على محاكمته. في حين ان الدولار، الذي تتم طباعته معززاً بثقة الحكومة الأميركية، ولاشي شيء إلا الثقة، سيتأثر تباعاً بالأحاديث الصريحة التي باتت تتداولها وسائل الاعلام، حول تراجع قيمته. وهذا ما يمكن رصده من متابعة قناتي Fox وCNN التي أعادت نشر مقاطع فيديو لعدد من الشخصيات والبرامج التي تتحدث عن تراجع الدولرة.

عملت واشنطن طيلة عقود على حماية الدولار بقوة السلاح، وخاضت لأجل ذلك حروباً وصراعات:

- أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000، اتخذ الرئيس العراقي، صدام حسين، قراراً يقضي باعتماد اليورو بدلاً من الدولار "عملة العدو"، في التبادلات التجارية النفطية، بدأ بذلك فعلياً. وهذا كان أحد أهم الأسباب التي سرّعت بالاحتلال الأميركي للعراق.

حينها، كانت الخطوة العراقية تعد بمثابة "نفض الغبار عن استراتيجية ناقشتها دولة أخرى تعرضت للعقوبات الأمريكية - مثل إيران-. مع ترقب أيّ الدول ستكون التالية، وكانت تتجه الأنظار نحو فنزويلا، التي كانت علاقتها مع واشنطن تشهد حالة من التوتر، بعد ان شدد الرئيس هوغو شافيز على العلاقات مع الرئيس الكوبي، فيديل كاسترو.

- منتصف شهر نيسان/ ابريل عام 2016، أظهرت وثائق ويكيليكس، عن رسائل بريد الكتروني، تعود لوزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، استقبلتها في 2 نيسان/ ابريل عام 2011، تكشف خلفيات قرار مجلس الأمن، الذي "أجاز العمل العسكري لحماية أرواح المدنيين". وقال الخبير الاقتصادي الأميركي الشهير، جون بيركنز، حينها: "الهجوم على ليبيا، مثل الهجوم على العراق، له علاقة بالسلطة والسيطرة على الموارد، ليس فقط النفط، بالذهب أيضاً. ويقدر صندوق النقد الدولي أن البنك لديه ما يقرب من 144 طنًا من الذهب في خزائنه".

خلال الأشهر التي سبقت قرار الأمم المتحدة، الذي يقضي بإرسال قوات إلى ليبيا، كان معمر القذافي، الرئيس الليبي، ورئيس الاتحاد الافريقي، حينها، يدعو علنًا إلى إنشاء عملة جديدة تنافس الدولار واليورو، وهو الدينار الذهبي.

هل ستنجح جهود كسر هيمنة الدولار؟

ثمة من يعتقد، ان معقولية كسر هيمنة الدولار، تتعلق بفرضية تقوم على ضرورة تأمين بديل بنظام مماثل أو أفضل عن نظام سويفت. بينما يشير الصحفي السويدي، مالكولم كيون، إلى ان "النظام المالي الحالي لم يكن موجودًا إلا لمدة 60 عامًا تقريبًا من حوالي 6000 عام من الحضارة الإنسانية، فإن هذه الفكرة حمقاء".

إن الخطر الذي يتهدد هيمنة الولايات المتحدة على العالم لا يتمثل في أن الصين سوف تتوصل إلى نظام أفضل من النظام الحالي، ولكن هذا الطلب العالمي على الدولار، سينخفض إلى ما دون المستوى الذي يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل فيه عبء ديونها الهائل. تصدر واشنطن، اليوم النقود الورقية وتستورد المضادات الحيوية والصلب والرقائق الدقيقة. وبدون الطلب العالمي على تلك النقود الورقية، فإن الاقتصاد سيصبح أكثر فقرًا وأقل ثراءً.

قد لا تنجح الصين وروسيا وايران ومعهم مجموعة من الدول، بإصدار عملة موحدة بنظام موازٍ لنظام سويفت، مع غياب الركائز الأساسية لذلك. إلا ان الاعتماد على سلة متكاملة من العملات الوطنية لتلك الدول، وإعطاء الأولوية لاستبعاد الدولار قدر الإمكان عن المبادلات التجارية، سيشكل فارقاً ملموساً خلال السنوات القادمة. وبعيداً عن سرد السيناريوهات المحتملة لتلك المواجهة، والتي قد تجبر واشنطن إلى اعتماد سياسة "الهروب إلى الامام" واللجوء إلى الخيار العسكري لإعادة بسط سيطرتها، نذكر ما جاء بخطاب رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، عام 2005:

"في الصين والهند لا يناقشون العولمة، بينما تدعونني للتوقف ومناقشتها، إنهم يستغلون إمكانياتها بطريقة ستغير حياتهم وحياتنا. نعم، لا يزال الملايين من الدولتين يعيشان في فقر. لكنهم في حالة تحرك...شخصية هذا العالم المتغير غير مبالية بالتقاليد... إنه مليء بالفرص، لكن الفرص تذهب فقط إلى أولئك الذين يتسمون بالسرعة للتكيف، وبطيئون في الشكوى، وراغبون وقادرون على التغيير". وعلى ما يبدو ان السنوات القادمة ستكشف ان بلير كان على حق.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور