الخميس 02 حزيران , 2022 04:08

الكيان المؤقت سبب صراعات وحروب المنطقة

الكيان المؤقت

الكيان المؤقت  هو بؤرة الخراب، ويتجسد ذلك في دوره الأساسي في شنّ الحروب ومحاصرة الشعوب من خلال ما أطلق عليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بمسار الانهاك الذي يهدف الى اجبار الدول والشعوب وقوى المقاومة على التخلّي عن فلسطين والتنازل عن حقوقهم الطبيعية في مياههم الإقليمية وثرواتهم.

من هذا المنطلق يتأكد يوما بعد يوم الدور الأساسي لهذا الكيان منذ ان زرع في قلب هذه الامة، في افتعال الازمات والحروب الداخلية والإقليمية.

أوّلا: الكيان المؤقت سبب رئيسي في الصراعات والحروب في المنطقة

كل الحروب والأزمات والصراعات التي شهدتها ولا تزال منطقة الشرق الأوسط، حصلت بسبب وجود هذا الكيان الهجين المؤقت الذي زرع في قلب هذه المنطقة، والذي كان شريك اساسي فيها. استفاد هذا الكيان من الحرب على العراق، ومن ظهور داعش والجماعات التكفيرية ومن الحرب على سوريا ومن استهداف المقاومة في لبنان، وغيرها من الازمات.  هكذا ينشغل الإسرائيليون بما يجري في العراق، لدفع الأميركيين إلى مزيد من ارتكاب المجازر وأعمال الإرهاب والتدمير، ولتحريضهم أكثر ضد سوريا وإيران ولبنان، واستخدامهم لتنظيف المنطقة من "أعدائهم"، وتبرير أعمالهم في فلسطين.

1/ الاستفادة من الحروب والصراعات

عندما خططت الإدارة الأميركية للحرب على العراق، كانت مصالح الكيان المؤقت واحدة من الأهداف المطلوب تحقيقها. وعندما نفذت الإدارة خطتها واحتلت العراق متجاوزة الأمم المتحدة ودعوات دولية كثيرة متذرعة بأسباب ثبت أنها كاذبة، تكشفت أكثر المصالح الإسرائيلية، وظهر الدور الإسرائيلي المباشر جليا على الأرض إلى جانب الاحتلال الأميركي. فالقوات الأميركية تستفيد من تجربة جنود جيش الاحتلال في إرهاب الفلسطينيين وتكريس الاحتلال على أرضهم، وتستخدم أسلحة إسرائيلية، وتعتمد الأساليب ذاتها التي يعتمدها جنود جيش الاحتلال. كذلك فإن شركات إسرائيلية بدأت تعمل في العراق، إضافة إلى وجود مكثف لعناصر الموساد وقتلهم عددا من العلماء العراقيين ووجود المنقبين عن الآثار في عدد من المناطق العراقية، والبحث عن إعادة ضخ النفط إلى حيفا، وتوطين الفلسطينيين في العراق، بعد تهجير عدد كبير منهم مجدداً من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في السياسة كان الكيان المؤقت هو المستفيد الأكبر من الحرب لأسباب أهمها:

_ إن تدمير العراق كان يعني خروج دولة عربية كبيرة من دائرة الصراع مع الكيان، بعد خروج مصر في كامب ديفيد، ثم خروج الأردن، وانفتاح عدد من الدول العربية على الكيان تحت وهم إمكانية تحقيق السلام وإرضاء أميركا وضمان مواقع ومصالح المسؤولين فيها. واحتلال العراق والسيطرة على ثرواته، وإفقاره، واستهداف العلماء فيه، هو تعطيل للعقل العربي ولأية امكانية يمكن ان تستثمر مادياً وبشرياً في مواجهة إسرائيل.

_ إن السعي الأميركي لتفتيت العراق وإعادة تركيبه على قاعدة فيدرالية، والسعي إلى إثارة الفتن المذهبية والطائفية والعرقية، واستخدام كل الوسائل التحريضية في هذا الاتجاه، إنما يخدم المشروع الإسرائيلي الرامي إلى تفتيت كل المنطقة وإقامة دويلات تكون بمثابة محميات إسرائيلية، تتناحر فيما بينها، وتدير إسرائيل لعبة التناحر بفعل ضمان موقعها وتفوقها استراتيجيا من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

_ كلما تورطت أميركا في العراق كلما برر الكيان جرائمه ضد الفلسطينيين من إرهاب وقمع، وهي استفادت من كل الأحداث التي جرت بعد 11أيلول2001 لتكريس هذه السياسة. فعندما احتلت أميركا افغانستان، بعد الحرب على حركة طالبان حليفتها السابقة، وتحت عنوان مواجهة الإرهاب، كان الإسرائيليون يقولون للأميركيين عندما كانوا يطلبون باتخاذ خطوات - ولو إعلامية - لتهدئة الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، "أنتم تأتون من آخر أصقاع الأرض لمقاومة الإرهاب في أفغانستان، ألا يحق لنا مقاومة (الإرهاب الفلسطيني) على أرضنا؟؟ إن لديكم أسبابكم ولدينا أسبابنا. وجذور الإرهاب واحدة."

انطلاقاً من هذه السياسة، استفاد الكيان من دفع أميركا إلى مزيد من الضغط على سوريا التي رأت انه من الضروري معاقبة نظامها، نظرا لمخالفته للسياسات الامريكية في المنطقة وعدم انصياعه لقرارات التطبيع والاستسلام للعدو ومشاريعه. كان ضرب سوريا أيضا بعد العراق من المطالب الملحة لإسرائيل، نظرا لما اعتبرته خطرا وتهديدا حقيقيا لأمنها القومي بسبب صلابة النظام السوري ورفضه الامتثال للضغوط الامريكية بشأن التخلي عن الجولان وعن القضية الام فلسطين.

بعد سنوات من الحرب والاحتلال للعراق، بدت تظهر آثار الحرب التي توافقت نتائجها مع اهداف الكيان الاستراتيجية. وعندما أعادت لجنة المخابرات العسكرية الإسرائيلية تقييم ملفها الاستراتيجي بعد اندلاع الانتفاضة، كانت المحاور الرئيسية في ذلك الملف تتقاطع مع ما حدث في العراق. عندها، اعتبر الكيان أن الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الكيان يشكلون التهديد الأكبر، يليهم في الترتيب فلسطينيو الضفة الغربية وغزة، ثم محور الدول الحدودية، لبنان ممثلة بحزب الله وسوريا كذلك. ومثلت العراق ومعها إيران، المحور الرابع على قائمة التهديدات في اللغة الاستراتيجية الإسرائيلية. انتظر الكيان لحظة انتزاع المكاسب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بعيدة المدى.

آما المكاسب السريعة، فتمثلت حسب المراقبين، في الاستفادة من تحول الاحتلال السريع للعراق إلى عامل ضغط مباشر على سوريا، الأمر الذي راح يتبلور على أرض الواقع من خلال التهديدات الأمريكية البريطانية لسوريا بشأن الاتهامات حول امتلاك دمشق أسلحة دمار شامل.

ظهرت العديد من المخططات الاسرائيلية لتفتيت العراق بعد الاحتلال الامريكي، ثم بعد ذلك لتدمير سوريا.  قدم جنرالات وباحثون اسرائيليون بعد مرور ثلاثة سنوات على احتلال العراق مذكرة للحكومة الاسرائيلية برئاسة ايهود باراك الذي استلم السلطة في 2006 من اجل الاستفادة من تقسيم العراق طائفيا وتقليص المخاطر ضد الكيان وتضمنت تلك المذكرة النقاط التالية:

_ يتوجب الضغط على الولايات المتحدة لمنعها من الانسحاب من العراق قبل تفتيت وحدته الجغرافية وتسهيل اقامة دويلات طائفية ضعيفة فيه لحماية المصالح الأمريكية والاسرائيلية بالمنطقة.

_ يتوجب على الكيان تطوير علاقته مع الكونتونات التي نشأت في العراق، وهذا ماصل بإعلان العلاقات الدبلوماسية الثنائية مع اقليم كردستان العراق، والذي استغلها الكيان لتفعيل نشاط الموساد الاسرائيلي فيها لاختراق الحدود مع إيران والقيام بعمليات ارهابية داخل الاراضي الايرانية. من هنا جاء الرد الايراني مؤخرا باستهداف مركز في اربيل كان يستخدمه الموساد كمقر أمنى له لاستهداف الامن والاستقرار في إيران.

_ يعتبر صانعو القرار في داخل الكيان أنّ الانسحاب الامريكي من العراق سيشكّل نقطة ضعف ستكشف عن فشل الغرب مما سيفتح المجال للقوى المقاومة في العراق والمنطقة لمزيد من التحرك والقيام بعمليات عسكرية لضرب المصالح الامريكية لإرغام القوات الامريكية على الانسحاب، والذهاب الى ابعد من ذلك باستهداف مصالح الكيان ايضا وتدميرها.

2/ الكيان المؤقت وعلاقته بالمشروع الوهابي التكفيري:

يقرّ المحلّل العسكري الاسرائيلي رون بن بشاي في موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن "تنظيمات ما يسمى الجهاد العالمي لا تستهدف حاليًا إسرائيل، وأن حربها الآن هي مع الأنظمة العربية". وقد اتضح أن الهدف الرئيس من ظهور هذه الجماعات التكفيرية المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط، مع اندلاع الأزمة السورية وبعدها العراقية، هو السعي لتفتيت الدول العربية وإضعاف جيوشها، الأمر الذي يعتبر من أبرز الأهداف التي تسعى الدوائر العسكرية الصهيونية الى تحقيقه منذ نشوئها.

_ أوجه التشابه بين داعش والكيان المؤقت

في واقع الحال، نحن اليوم أمام عراق ممزق، وسوريا مستنزفة ولبنان محاصر اقتصاديا وسياسيا بسبب دور المقاومة الاسلامية الاساسي في كسر المشروع التكفيري في المنطقة وتحطيم مشاريع الهيمنة الامريكية والصهيونية على لبنان وخياراته في مقاومة العدو وتحرير الارض، إضافة الى شعب فلسطيني يصارع في كل الاتجاهات لتثبيت الحق الفلسطيني والدفاع عن القدس، وكذلك هي حال اليمن. ما من شك في أن الدوائر السياسية الصهيونية، بحسها الانتهازي المعروف، هي المستفيد الاكبر من وجود هذه الجماعات التكفيرية التي كان الهدف الاساسي لها هو تمزيق الدول وتفكيكها واستنزاف كل اشكال المقاومة الحقيقية لمشاريع الكيان الصهيوني، في مقابل تحويل البوصلة لدول وقوى اخرى راهنت على سقوط الكيان باعتباره كيانا مؤقتا، زائل لا محالة، ورجوع الحق الفلسطيني والمقدسات.

وعلى هذا الصعيد نشر موقع "فيترانس توداي" البحثي تقريرًا له حول أوجه التشابه بين داعش والكيان المؤقت، وقال "إن الكيان يدعي أنه الدولة اليهودية كما أن داعش تصف نفسها بأنها الدولة الإسلامية، ولكن تلك الكيانات الإرهابية تعرف نفسها من حيث الايديولوجيات الطائفية العنصرية الصارمة. ويضيف الموقع أن كلًا من داعش والكيان المؤقت يعيشان على أرض مسروقة ويدوسان بوحشية الشعوب التي يرونها أقل منهم قوة، كما أنهما يفخران بارتكاب الفظائع الرهيبة. فداعش والكيان المؤقت كيانان إرهابيان يمكنهما العمل معًا، ولهذا السبب هناك مئات الإرهابيين من تنظيمي داعش والنصرة كانت تتم معالجتهم والعناية بهم إلى اقصى حد في المستشفيات الإسرائيلية اثناء الحرب في سوريا. ويختتم موقع «فيترانس توداي» بقوله: يوجد بين الكيان المؤقت وداعش الكثير من القواسم المشتركة، بما في ذلك الطائفية وجرائم الحرب وزعزعة استقرار الدول المجاورة، والعيش على أرض مسروقة، وعليهما الاندماج في كيان واحد، فذلك الكيان سيكون مناسبًا للأشخاص الذين نشأوا وتربوا على الكراهية، وبالتالي فهم يستمتعون بإطلاق النار على الأطفال والنساء وكبار السن والأسرى.

كيف يستفيد الكيان من داعش؟

يستفيد الكيان من تصرفات داعش بحيث أنه يقوم بتعزيز علاقاته ببعض دول الجوار ومدّ جسور اتصال مع الأنظمة العربية المتهالكة، وقد ورد ذلك على لسان وزير الخارجية الصهيوني أفيغدور ليبرمان، عبر الدعوة لتشكيل تحالف عربي -إسرائيلي، لمواجهة الجماعات المتطرفة، على حد قوله. وأكدت صحيفة «يديعوت أحرونوت» كذلك أن وصول داعش للعراق والأعمال التي تنفّذها هناك ضدّ الأقليات الدينية من قتل وتهجير، قد ساهمت في الذهاب باتجاه تعزيز العلاقات الأمنية مع الأردن بشكل خاص.  

يستفيد الكيان من الحرب على الإرهاب دعائيًا واعلاميًا لينفي التهمة عن نفسه ويقول إن "الإرهاب" موجود على ابوابه، وهو يتمثل في منظمات المقاومة الفلسطينية المسلّحة على انواعها، ولذلك لا بد من نزع سلاحها قبل إعمار غزة، ولا بد من تدمير الأنفاق، ولا بد من اتخاذ كل الاحتياطات الأمنية وإطلاق يد جنود جيش الكيان في الدفاع عن أمنه ومصالحه الاستراتيجية من دون أي لوم أو عتاب. وفي الخارج، يقول الكيان المؤقت إن الإرهاب على بابه في الجولان، وعلى الحدود الأردنية، وفيما يواجهه النظام هناك من تحديات ومخاطر، وعلى الحدود المصرية في سيناء، وبالتالي لا بد من توفير كل الحمايات لها وفي كل الاتجاهات. الأخطر اليوم هو ما يقوم به الكيان من مناورات سياسية للتخلص والتحلل من موجبات ما تفرضه انتهاكاته القانونية الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس وذلك بناء على ما جاء على لسان نتنياهو: «إن المبادرة العربية الصادرة عن الجامعة العربية في العام 2002، لم تعد ذات صلة بالشرق الأوسط بعد أن شهدت المنطقة تغييرات كثيرة، تبدأ من قطاع غزة، وتمر بسوريا والعراق وتصل إلى إيران. والمبادرة أعدت بالأساس لمرحلة سابقة ومختلفة وذلك قبل سيطرة حماس على غزة، واستيلاء داعش على أجزاء من سوريا والعراق والتفكك الفعلي للبلدين، وأيضًا قبل أن تسرع إيران وتيرة برنامجها النووي، ويسيطر تنظيم القاعدة على الجولان، وهذا هو جوابي على المبادرة وما تنص عليه من انسحاب إسرائيلي من الجولان." توجد حقيقة هنا وهي اعتراف أكثرية دول الشرق الأوسط بأن الكيان المؤقت لم يعد عدوها الأبدي، وعلى أقل تقدير هي حليف محتمل في التصدي للتحديات المشتركة.

يستغل الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، عوزي ديان، الأحداث القائمة ليبرر احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية وممارسة المزيد من البطش والإرهاب ضد الفلسطينيين بقوله إنه «في حالة انعدام يقين كهذه، ينبغي العمل وفق قاعدتين: جهّز نفسك وفق قدرات العدو، وليس وفق نواياه، وحافظ بحرص شديد على كنوزك الاستراتيجية، وبخاصة الحدود الآمنة. وينبغي أن توفر الحدود الآمنة للكيان عمقًا استراتيجيًا في مواجهته لتهديدات تقليدية أو هجمات إرهابية». واعتبر ديان أن حدودًا آمنة كهذه موجودة في الجبهة الإسرائيلية الجنوبية بفضل جعل سيناء منزوعة السلاح، بموجب اتفاقيات كامب ديفيد، وفي جبهتنا الشمالية بفضل امتناع الكيان عن تسليم مرتفعات الجولان إلى سوريا. وأوضح ديان أنه في الجبهة الشرقية مع الأردن توجد حدود أمنية تستجيب للاحتياجات الأمنية الإسرائيلية وهي غور الأردن حيث أن معدل المسافة بين نهر الأردن والبحر المتوسط هو 64 كيلومترًا، وهي تشكل حدًا أدنى من العمق الاستراتيجي، وأن غور الأردن من النهر إلى الجبال المطلة عليه، هو حيز دفاعي لا بديل عنه، ويشكل غلافًا دفاعيًا ضد نشوء كيان معاد في الضفة الغربية، وضد أي هجمات خارجية محتملة. وخلص ديان إلى أن الرسالة قد وصلت من العراق وسوريا، ومفادها أن السيطرة الإسرائيلية الكاملة على غور الأردن كله، كمنطقة أمنية تستند إلى نهر الأردن كخط حدود... هي فقط التي ستوفر الأمن للدولة العبرية، على حد زعمه."

3/ مسار التطبيع العربي مع الكيان المؤقت ونتائجه الوخيمة على دول وشعوب المنطقة

إزاء فورة الدول العربية بالذهاب نحو التطبيع ومساعيها الجاهدة في الهرولة الحثيثة نحو الكيان الصهيوني، حري بنا تصويب محرّك البحث نحو تجارب الدول المطبعة سابقًا، مقارنةً بمن مانع ورفض المصافحة. وعليه، أخذنا مصر وإيران كبلدين سارا في خطين متوازيين لا يلتقيا ومتناقضين لا يجتمعا تجاه العدو الإسرائيلي. إن الفخ الاقتصادي كان بابًا واسعا لمختلف الدول للوقوع من خلاله في فلك التبعية للغرب، إلا أن مجموعة أخرى من الدول كانت على المقلب الآخر صامدة رافضة للتبعية، فلم تسالم ولم ترضخ للهيمنة الاقتصادية او السياسية تباعًا. وللمفارقة، لم يكن النموذج الذي مضى مهادنًا الرابح في هذه المعادلات العالمية؛ حيث زادت مديونياته وعجزه وزادت شعوبه فقرًا وتخلفًا. بينما نما المحور الممانع اقتصاديًا وتحرر من التحكم الأجنبي في اقتصاديات بلاده فغدا منتجًا مكتفيًا ذاتيا.

وليس الأنموذج المصري سوى خير مثالٍ مأساوي على التطبيع الاقتصادي والسياسي مع الغرب؛ طمعًا في الحضن الأميركي عن طريق الباب الإسرائيلي. على الدفة المقابلة، ليس الأنموذج الإيراني سوى خير مثالٍ مشرقٍ حول الدول الممانعة التي وقفت في وجه الاستكبار العالمي والهيمنة الأميركية والتغطرس الإسرائيلي.

إن النتائج على أرض الواقع، تثبت كيف يمكن للدول المحافظة على ثرواتها ومقدرات بلادها من خلال صون سيادتها وعدم تسليم زمام أمورها لدولٍ قائمة على الاحتلال والسرقة أو لمؤسسات مالية دولية تتحكم بها سياسيًا وتفرض شروطها في سبيل دعمها اقتصاديًا أو إيجاد حلول لأزماتها المالية.

مصر: نتائج سلبية للتطبيع مع الكيان المؤقت

 إن رؤية الرئيس المصري أنور السادات كانت تعتمد على وجهة النظر السائدة بأنّ إحدى طرق التقرّب من واشنطن هي من خلال "إسرائيل" ومن خلال موقف متسامح تجاه اليهود، فقد لجأ إلى الصلح والمهادنة تحت ذريعة تحسين الوضع الاقتصادي وعناوين النهوض والتنمية العريضة.

النتائج السلبية لتطبيع مصر

الإضرار بالقطاع الزراعي واستنزافه:

_ يمثل الناتج الزراعي 18% من الناتج القومي حاليًا، بينما كان في الستينات والسبعينات أكثر من 55% ما جعل مصر تتسم بوصفها بلدًا زراعيًا.

_ خسارة القطاع وإنتاج القطن والغزل والنسيج، بعد الاتفاقيات التي وقّعت عليها وزارة الزراعة المصرية، مع وزارة الزراعة للكيان الصهيوني، والتي اقتضت تحويل مسار الزراعة في مصر من القطن طويل التيلة، إلى زراعة الخضر والفواكه، بحسب تحقيق استقصائي أذاعته قناة (DW) الألمانية في العام 2018.

تهميش القطاع الصناعي:

 وقعت مصر رهينة هجوم مخطط عرف باسم «سياسة الخطوة خطوة» منذ عام 1974. ذلك الهجوم نجح في تحقيق أهدافه في منتصف عام 1977، إذ صاحب تلك الفترة تغيرات أصابت البنية الاقتصادية المصرية ودفعت السادات إلى الخضوع للشروط المفروضة عليه، ومن ثَمَّ التمهيد لعلاقات غير متكافئة مع الاقتصاد الإسرائيلي.

خسارة الموارد النفطية

الخسارة المصرية لمردودها المتوقع من النفط والغاز طوال عقود خلت، حيث عمد الكيان إلى استيراد منتجاتها النفطية بسعرٍ بخس وحرمت مصر من ذلك المدخول الكبير، إلى ان انتهى الأمر بالكيان الإسرائيلي بالتحول من مستوردٍ من مصر إلى مُصدّرٍ لها.

ضرب البنية الاقتصادية

_ الدين الخارجي لمصر في 1970، قد وصل إلى حوالي 2.6 مليار دولار بسبب خوض حرب أكتوبر؛ إلا أنه ارتفع ارتفاعا جنونيًا ليصل إلى 96 مليار دولار في 2019.

_ أمّا الديون الداخلية لا تزال في ازدياد، وقد بلغت الزيادة في الدين العام المحلي من العام 2000 حتى نهاية حكم مبارك نسبة 308%.

_ العجز الكلي في الميزان التجاري بقيمة 26 مليار دولار في مشروع موازنة العام المالي 2019/2020.

_ وصول معدلات الفقر إلى حوالي 60%، وأن الطبقة المتوسطة تتلاشى كما أفاد تقرير البنك الدولي مؤخرًا حول مصر.

ثانيًا: الكيان المؤقت يستفيد من مسار الانهاك لدول وشعوب المنطقة

يرتبط الكيان المؤقت ارتباطا عضويا بالجانب الامريكي وهناك بعض الخبراء اشاروا الى أنّ "قوة امريكا ستكون قوة لإسرائيل وضعفها هو ضعف لإسرائيل"، فكلما كان الحضور الامريكي قويا في المنطقة، كل ما كان هناك نوع من الدعم والاسناد المباشر للكيان المؤقت. لذلك يبدو التمسك الاسرائيلي ببقاء القوات الامريكية في المنطقة خاصة في العراق وسوريا وفي الخليج بمثابة الضمانة للمصالح الصهيونية واستمرارية كيانه. من هذا المنطلق يدعم الكيان المؤقت كل السياسات الامريكية، وهو يحرض الادارات الامريكية المتعاقبة على المزيد من السياسات العدوانية ضد دول وقوى محور المقاومة وعلى رأسها الجمهورية الاسلامية في إيران وسوريا اضافة الى قوى المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق. يعتبر الكيان ان استمرارية الحضور الامريكي في المنطقة هو بمثابة الرادع للخصوم او اي طرف يمكن ان يفتح مواجهة واسعة معه. يبقى السؤال المطروح دائما في مثل هذه الحالات، هل اذا شهدنا معركة كبرى على مستوى المنطقة ستكون الولايات المتحدة شريكة فيها الى جانب الكيان؟

تجدر الملاحظة بأن الكيان يعمل دوما على توريط الولايات المتحدة في خياراته العسكرية سواء كان في مواجهة إيران لضربها وبالتالي افشال مبادرات التفاوض والاتفاق النووي، للتخلص من امكاناتها. أو فيما يتعلق بالعمليات العسكرية ضد الفلسطينيين (معركة سيف القدس)، او المناوشات على الحدود الشمالية مع لبنان بما تحمله من استفزازت للمقاومة الاسلامية لجرّها ربما لمعركة يعرف العدو متى تبدأ لكنه لا يعلم متى تنتهي. في كل الاحوال علينا التأكيد على مسالة باتت اليوم واضحة بالنسبة لقوى وشعوب محور المقاومة، بأنّ الكيان أصبح غير قادر على المبادرة بالمواجهة لأنه بات يدرك خطورة واهمية الامكانات التي تمتلكها قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والتي تشكل تهديدا وجوديا على الكيان. بفضل سياسة الردع التي رسّختها قوى المقاومة في المنطقة بات الكيان يحسب ألف حساب لاي عملية عسكرية او امنية قد يقوم بها لتحقيق هدف محدود لن يقدر على صرفه في السياسة فقد ولّى زمن الهزائم.

في إطار مراجعتها لتكاليف الحروب العسكرية قبل احتلال العراق وما بعده، وما تسببه من صعوبة وخطورة متزايدة على مصالحها أولا وعلى مصالح حليفها الاسرائيلي ثانيا، وبعد أن كانت القوة العسكرية الهجومية هي الأداة الرئيسية في الاستراتيجية الامريكية العالمية، والتي استخدمتها لتغيير الأنظمة والتدخل في الصراعات الداخلية وتدمير قدرة الدول التي تهدد سياساتها، عملت الولايات المتحدة على استخدام أدوات جديدة وهي عبارة عن بدائل وخيارات غير عسكرية قادرة على تحقيق الأهداف المطلوبة أمريكيا وبتكاليف وخطورة أقل. ارتباطا بالادعاءات الامريكية المستمرة بمواجهة التهديدات العديدة والمتنوعة لمصالحها، نجح صناع السياسة في أمريكا في خلق خيارات جديدة لإرغام الدول المستهدفة ومعاقبة أولئك الذين يهددون المصالح الامريكية في المنطقة. من هذا المنطلق يعمل الكيان على الاستفادة من نزيف الحصار والعقوبات المسلطة على القوى والدول المستهدفة لتحقيق ولو البعض من الاهداف التي لم ينجح في تحقيقها عسكريا.

باختصار مكّنت عوامل القوة والقدرة لدى الأمريكي والتي اكتسبها بفضل سياسات الهيمنة والسيطرة والتمدد والتدخل في شؤون الدول، صناع السياسة الامريكية من استخدام أدوات ارغامية الهدف منها تثبيت ما تبقى من الهيمنة ومعاقبة "المتمرّدين" على هذه السياسة وردع أي محاولات تمرد جديدة. من بين أكثر خيارات القدرة على الارغام أهمية وتوفرا للولايات المتحدة هي الحصار وتسليط العقوبات بمختلف الياتها من حظر وإجراءات تضييق على كل منافذ الدولة، الى دعم المعارضة السياسية لأنظمة الحكم في الدول المستهدفة، ودعم الأنظمة التابعة وإدارة مؤسسات أمنية واقتصادية بشكل مباشر في الدول المفككة، والعمليات الهجومية الالكترونية.

على الرغم من ان البعض  في الادارات الامريكية المتعاقبة يقرّ بأنّ ارغام الدول المستهدفة مثل إيران وسوريا واليمن وفصائل المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين، على الاستسلام للسياسات الامريكية قد نجح الى حد ما بسبب قدرة الولايات المتحدة الامريكية على استخدام هذه الأدوات وتفعيلها، ونجاحها أكثر في استخدام أسلوب المراوغة والدبلوماسية الناعمة لإخضاع هذه القوى، الا انّ البعض الاخر يعترف بأن أدوات الارغام لا تزال عاجزة عن تحقيق الاهداف الامريكية، بسبب صمود هذه القوى واعتمادها سياسة ردع فاعلة استطاعت أن تعطّل هذا الاستهداف الامريكي في مراحل متعددة، حيث أنّ بعض المؤشرات خاصة تلك المرتبطة بدول المنطقة كلبنان وسوريا تؤكد على أنّها لا تزال تشكّل تحدّيا متعاظما لخيارات الولايات المتحدة العسكرية  وغير العسكرية في منطقة حيوية واستراتيجية. في الوقت الحاضر تبدو إيران احدى الدول المستهدفة أمريكيا، متماسكة من الناحية السياسية، كما انها تلعب دورا رائدا في الإقليم ولديها نفوذ وقدرة أيضا على التماهي مع المتغيرات والتحديات الطارئة، هذا إضافة الى امتلاكها لخيارات ارغام خاصة بها مثل قدراتها في المجال العسكري والالكتروني وعلاقاتها مع قوى محور المقاومة الفاعلة في المنطقة وكذلك علاقاتها مع القوى الدولية الصاعدة. أمّا في سوريا ولبنان واليمن فقد أثبتت التجربة أنّ الحروب- وعلى الرغم مما سببته من دمار وتفكك وأزمات- قد فشلت في اخضاعها وتعديل سلوكها حسب ما تريده امريكا، وحسب ما يسعى لتحقيقه الكيان من اهداف، اي تدمير "اعداءه الاقوياء" باستغلال الثغرات المنتشرة داخل الساحات (سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا).

يستفيد الكيان المؤقت من مسار الانهاك الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية على قوى ودول وشعوب محور المقاومة.

 

فرض خيارات سياسية على دول وشعوب المنطقة لإضعاف إمكاناتها وجعلها تابعة للسياسات الامريكية:

انشاء نخب وجماعات (داخل المنظومة السياسية في هذه الدول) تديرها حكومات عاجزة، لا تمتلك مشاريع إصلاحية واضحة وفعّالة، وتعمل فقط على تطبيق التوجهات والسياسات التي تخدم المصالح الامريكية. يبدو هذا الامر جليا في لبنان، حيث تعمل النخبة السياسية المؤيدة للسياسات الامريكية على فرض مشروع في الداخل اللبناني يقصي بقية الأطراف السياسية الفاعلة الرافضة للهيمنة الامريكية ومشاريعها التدميرية وعلى رأسها حزب الله الذي نجح أولا في ضرب حليف الولايات المتحدة في المنطقة وهو الكيان الغاصب، وثانيا في كبح المشروع التكفيري في المنطقة ضمن جهود محور المقاومة، وثالثا كشف الزيف الأمريكي ومخططاته التي تهدف الى تدمير الكيان البنيوي والمؤسساتي للبنان، وهذا المستوى من المواجهة شكّل دافعا للأمريكي لفرض الحصار الاقتصادي على لبنان لتضييق الخناق على المقاومة وبيئتها الحاضنة في محاولة لقلب موازين القوى الداخلية.

أما في سوريا فيبدو المشهد أكثر تعقيدا بالنسبة للأمريكي، حيث كانت أولوياته رحيل الرئيس الأسد ووضع المتطلبات الأساسية لمرحلة ما بعد الصراع، بما في ذلك المحافظة على مؤسسات الدولة للسيطرة عليها وانشاء نخبة تابعة جاهزة للامتثال للأوامر الامريكية وتنفيذ مشاريعها الاستعمارية، ولعب دور في اقصاء المقاومة ضد الكيان المؤقت بكل اشكالها وفتح المجال للاعتراف والتطبيع مع هذا الكيان. تفيد الدروس المستخلصة من الصراعات الأخيرة، وعلى ضوء الإدارات الامريكية المتعاقبة أن مسائل الأمن والحوكمة وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا تستدعي وجود سلطة مركزية بالدولة، فانهيار الدولة أو تمزقها سيؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار في سوريا ودول الجوار والمنطقة ككل. ولكن فرض الولايات المتحدة لعقوبات على سوريا وفي هذه المرحلة بالذات، يبدو أنّ الهدف منه ليس فقط محاصرة النظام والرئيس الأسد وفرض قيود على مشاريع إعادة الاعمار (قانون قيصر) لما دمرته الة الحرب المدعومة أمريكيا، بقدر ما هو محاولة أمريكية لإقصاء كل المنافسين الإقليميين الاخرين وعلى رأسهم روسيا والصين إضافة الى اٍيران والانفراد بمحاصرة البلاد وفرض مشاريع التقسيم الطائفي والعرقي التي لن تخدم الا أمريكا وحليفها الكيان الصهيوني.

في العراق، لم يختلف الامر كثيرا فقد عملت الادارات الامريكية المتعاقبة على ارساء منظومة سياسية تابعة وموالية لها بعد شنها حرب عسكرية مدمرة على العراق ونشر الفوضى والفتنة التي ادت الى حرب اهلية لم ينجح العراقيون في تجاوزها الا بعد مواجهة طويلة مع القوات الامريكية، ويظهر جليّا أن الامريكي وعلى الرغم من اعترافه بفشل سياسته العسكرية في العراق الا انه لا يزال يعمل على التدخل في كل مفاصله لإسقاط اي مشروع مقاوم يرفض الوجود الامريكي ويتصدى له في العراق والمنطقة.

في إيران، الاستمرار في المماطلة في الذهاب نحو مفاوضات حقيقية للحيلولة دون الاعتراف بحق إيران كدولة ذات سيادة في الإقليم في استغلال ثرواتها وتنمية قدراتها العسكرية والاقتصادية. كذلك العمل على عرقلة حضورها في المنطقة بسبب دعمها اللامتناهي لقوى المقاومة ورفضها المثول للشروط الامريكية بالاعتراف بالكيان المؤقت.

في اليمن، تحاول الولايات المتحدة الامريكية الدخول على خط مرحلة ما بعد وقف الحرب لفرض مشروع التقسيم والتفتيت على اليمنيين وادارة الصراع الداخلي على النفوذ والسلطة- مع استمرار الحصار وسياسة اغلاق كل المنافذ البرية والجوية والبحرية لمنع اليمنيين من البحث عن مخارج لمعالجة الازمة الإنسانية التي تسببت فيها سنوات الحرب والعدوان (هذه الحرب العدوانية الظالمة التي خطط لها الامريكيون ونفذها السعوديون والتي لم تحقق أيا من اهدافها)، ولفرض شروط وخيارات اعادة الاعمار وبناء الدولة وفقا للمصالح الامريكية والضغط على حكومة صنعاء المستقلّة لحثها على التراجع وحرمان الشعب اليمني من الاحتفال بمفاعيل صموده وانتصاره بعد سنوات من العدوان.

السيطرة على المنظومة الاقتصادية والمالية في دول المنطقة:

تتدخل الولايات المتحدة الامريكية لتوجيه الشركات والمؤسسات المالية والبنكية في العراق وسوريا واليمن ولبنان (مصرف لبنان المركزي) ومن خلال مجموعة من الخبراء لتكون طرفا مباشرا في المواجهة مع البيئة الداخلية (المقاومة اللبنانية والعراقية واليمنية) المستهدفة علنا، فتٌحكم الحصار على الدولة والحكومة وتعطّل أي مبادرات وطنية لحل الازمات العالقة سياسية كانت او اقتصادية. يعمل الامريكية على زرع تعقيدات في طريق أي مبادرة تسعى للخروج من الازمات في دول المنطقة المستهدفة (لبنان، العراق، اليمن، سوريا) من خلال:

وضع خطط واليات تستهدف العملة الوطنية والقطاعات الحيوية في الدولة.

_ اقحام المؤسسات المالية الدولية وعلى راسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لفرض شروط تعجيزية (رفع الدعم على المواد الأساسية، تفكيك القطاع العام، خصخصة المؤسسات الاقتصادية والصناعية، تعويم العملة المحلية...) على حكومات الدول مقابل تسهيل قروض تحت عنوان مساعدات استعجالية.

_ استخدام المؤسسات المالية الدولية -كأدوات ضغط - لتقديم قروض بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات بشرط قيام المؤسسات التابعة للولايات المتحدة بتنفيذ تلك المشروعات. يعني ذلك، احتكار امريكي لكل الإمكانات والموارد وعدم السماح لاي دولة او قوة إقليمية أخرى في المنطقة بتقديم العون او الاستثمار في لبنان مثلا او التدخل لفك الحصار على الشعب اليمني والمساهمة في إعادة اعمار البنى التحتية في اليمن، او دعم غزة المحاصرة، او مساعدة سوريا في مرحلة إعادة ترتيب الأوراق السياسية والاقتصادية بعد وقف الحرب.

_ في سياستها المالية، تفرض الولايات المتحدة على الدولة المستفيدة من القروض الدولية شروط صعبة لتسديد أصل القرض والفوائد في زمن الازمات، بمعنى اخر تفرض عليها اليات وشروط لسداد الدين دون مراعاة للازمات والصعوبات التي تعيشها. وعليه، يصبح هذا التعثر عن السداد فرصة للولايات المتحدة للهيمنة والسيطرة على موارد هذا البلد وعلى سلطة اتخاذ القرار فيها. واختراق يسمح لها بالتدخل أكثر في مرحلة اخرى للانقضاض على اي حلول وعرقلتها وتنفيذ خططها لإسقاط الدولة ونشر الفوضى وتحريك النعرات والحروب الاهلية.

ارباك القوى والدول المستهدفة وشعوبها:

عجز الدول والكيانات المستهدفة امريكيا وتعثرها عن سداد القروض الدولية وارتفاع منسوب المديونية والتضخم والعجز التجاري، كلها مرادفات لصناعة أمريكية بامتياز هدفها الأساسي اسقاط الدول او كما تقر الاستراتيجية الامريكية، تغيير سلوكها، لكن، إذا فشلت الولايات المتحدة في تحقيق ذلك فإنها تذهب الى خيارات أخرى أشد خطورة وهي:

_ التحريض والشيطنة لقوى محور المقاومة وللحكومات المساندة لها بكل الوسائل اعلامية كانت او سياسية او امنية او استخباراتية.

_ نشر الفوضى واستغلال هشاشة البيئة الداخلية لتمرير عناوين طائفية ومذهبية هدفها استنزاف بيئة المقاومة وارباكها._

_ ضرب الامن والاستقرار من خلال الذهاب الى خيار الاغتيالات اٍما لإرباك الجبهة الداخلية وتوتير الأوضاع، واٍمّا لاستهداف بنى المقاومة وتفكيك روابطها، لإخضاع هذه الدول والسيطرة عليها بعد تدميرها داخليا.

_ الذهاب الى خيار الحرب الاهلية من خلال زرع الفتن في بيئات هشة وغير متجانسة لإسقاط الدولة لاستنزاف قوى المقاومة ماديّا وبشريّا. فعند تفاقم الازمات الداخلية وعجز دول المنطقة عن مواجهتها، تصبح الساحة مفتوحة للأمريكي وللكيان المؤقت، للدخول على خط الانقلابات والفوضى والصراعات الاهلية، وقد حصل ذلك في لبنان وسوريا والعراق واليمن.

 

تأثير العقوبات الاقتصادية على دول وشعوب المنطقة

العقوبة هي أداة للسياسة الخارجية والضغط الاقتصادي. تمتلك الولايات المتحدة انواع مختلفة من العقوبات، في حين أن بعضها يستخدم على نطاق أوسع من البعض الآخر، فإن الهدف العام لكل منها هو فرض تغيير في السلوك على الدولة او الجهة المستهدفة. يمكن أن تتخذ العقوبات أشكالاً عديدة، كما يمكن أن تمارس بعدة طرق ويبدو أن الولايات المتحدة نجحت الى حد ما في تأطير العديد من الاجراءات التعسفية لمحاصرة هذه الدول اقتصاديا وارهاقها من خلال تفعيل  الحصار الشامل بتجميد اصول هذه الدول او مصادرتها واصدار قوانين واتخاذ اجراءات تنفيذية(قانون سيزر)  لتفعيل قيود مشددة تمنع الدول من التعامل مع سوريا  ولبنان وايران مثلا، ومنع الشركات والمؤسسات من المشاركة في مشاريع اعادة الاعمار في سوريا، والهدف بكل تأكيد هو اسقاط الدولة واضعاف النظام الحاكم وارغامه على الرضوخ للشروط الامريكية، وعلى رأسها فك ارتباط سوريا بمحور المقاومة وايران. في اليمن لا يختلف الوضع كثيرا خصوصا وأن هذا البلد لا يزال يعاني من ويلات حرب عدوانية دفع ثمنها الشعب اليمني ولا يزال بسبب سياسات الحصار الامريكي التي منعت عنه العلاج والدواء والغذاء لتكون أكبر كارثة انسانية عرفها التاريخ الحديث في سلسلة الحروب المدعومة أمريكيا. في لبنان يبدو الوضع أكثر تعقيدا، حيث تعمل الولايات المتحدة على ادارة "حصار صامت لكنه معلن" يستهدف الدولة والمقاومة وبعناوين مختلفة. تصنف هذه العقوبات الامريكية بأنها احادية الجانب وهي الاكثر خطورة لأنه تمّ سنّها من قبل قوة اقتصادية نافذة ومسيطرة في العالم، قادرة على الاستهداف ولديها الإمكانيات لتحقيق ذلك..

تستغل الولايات المتحدة الامريكية العديد من الثغرات داخل الدول المستهدفة لاختراقها ومحاصرتها، وتتمثل هذه الثغرات في:

_ جملة من الازمات الناتجة عن الحروب الاهلية او الصراعات الاقليمية التي شهدتها هذه الدول (لبنان، العراق، اليمن، سوريا)، والتي سهّلت الاختراق الامريكي والصهيوني الذي لعب على ورقة الحروب والصراعات لتنفيذ خططه.

_ الاخلالات الاقتصادية والتي تتعلق بفشل البرامج الاقتصادية والمشاريع الانمائية وغياب التخطيط الفاعل بسبب بيروقراطية السلطة الحاكمة، وفسادها، وعدم شفافيتها (لبنان-العراق).

_ الاخلالات الاجتماعية والمتمثلة في التفكك الاجتماعي وفشل السلطة الحاكمة في بلورة منظومة اجتماعية موحدة قائمة على عقد اجتماعي جامع لكل الاطياف.

_ الاخلالات السياسية المرتبطة بأزمة الحكم والسلطة والنظام في هذه الدول (لبنان -العراق مثالا).

إذا كانت بعض الحكومات في دول المنطقة تعاني بالأساس من أزمات عديدة ومتنوعة أولها الفشل السياسي في إدارة الازمات وصنع القرار، الى جانب فقدان الميثاقية مع شعوبها واخلالها بوعودها، وانهيار القطاعات الحيوية القادرة على تغطية الثغرات الحاصلة كما في لبنان والعراق، إضافة الى تأخرها في مواجهة تحديات ما بعد وقف الحرب كما في سوريا واليمن، فانّ تشديد الحصار عليها سيزيد من احتمالية تعرض البلد المستهدف لعبء اقتصادي كبير وازمات طويلة.  بالمبدأ، هذا هو الرهان الأمريكي، لكنه رهان قائم على اضعاف الدولة وكسر صمودها لتصبح دول تابعة مرهونة لسياسات الادارة الامريكية، لكنه ايضا يرفض انهيارها كليا. انها الحسابات الامريكية التي تكسر العصا ولا ترميها بل تستمر في توظيفها خدمة لمصالحها.

تستخدم الولايات المتحدة العقوبات كأداة اكراه للتأثير على خيارات الدول والشعوب المستهدفة لكنها تستهدف الأفراد ايضا، مثل الشخصيات السياسية أو رجال الأعمال والعسكريين الذين تعتبرهم الولايات المتحدة عائقا كبيرا امام تحقيق خططها بل قد يشكل وجودهم وحضورهم على الساحة تهديدا واضحا لمصالحها:

_ استهداف شخصيات سياسية في إيران، وسوريا، ولبنان، واليمن، بسبب ارتباطهم بقوى المقاومة في المنطقة.

_ استهداف شخصيات بعينها، سواء بفرض الحظر على حرية التنقل والممتلكات (كما حصل مع شخصيات رسمية وعسكرية سورية وعلى رأسها الرئيس السوري بشار الأسد،)، أو قادة حركة أنصار الله في اليمن (بعد وضعهم على لائحة الإرهاب الدولي) في محاولة للضغط على الحركة لإفشال الصمود اليمني وتشويه انتصاره على المشروع الامريكي، او قيادات وشخصيات سياسية وحزبية مقربة من حزب الله في لبنان.

_ يبدو أن فرض العقوبات على الافراد لم يقف عند حد الحظر بل تجاوزه ليطال الاستهداف المباشر بالاغتيال والقتل لبعض الرموز المقاومة في المنطقة (اللواء قاسم سليماني والشهيد أبو مهدي المهندس).

يعمل الكيان المؤقت على الاستفادة بقدر المستطاع من سياسة الحصار الذي تفرضه الإدارة الامريكية على دول وقوى وشعوب المنطقة، معتقدا ان هذه السياسة ستسبب نوع من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي سيسقط هذه الدول ويجعل منها كيانات فاشلة غير قادرة على مواجهة الكيان وتهديد وجوده.

ثالثًا: ظهور نظام إقليمي جديد بقيادة قوى محور المقاومة

على الرغم مما تواجهه دول وقوى محور المقاومة من استهداف وتهديد بسبب سياسة الضغوط والحصار التي تنتهجها الولايات المتحدة وادواتها في المنطقة، والتي تعدّ أخطر انواع الحروب وأكثرها تعقيدا وأشدّها عنفا على الاطلاق، الا انها نجحت في تخطي أصعب المراحل لهذه الحرب، بفضل صمودها. فقد أثبتت العقوبات الأحادية الجانب أنها اقل فاعلية من العقوبات المتعددة الأطراف، وان معدل فاعليتها منخفض مقارنة بغيرها، وعليه، إذا تم فرض عقوبة من جانب واحد، يمكن للبلد المستهدف (سوريا، لبنان، اليمن...) استخدام طرف ثالث لكسر الحصار وفكّ الحظر المفروض، ويمكن الإشارة هنا الى الدور الروسي وكذلك الصيني في اختراق العقوبات الامريكية المفروضة على سوريا ولبنان.

في كثير من الحالات، تسببت العقوبات في أضرار اقتصادية دون تغيير سياسات الدولة المستهدفة وأكبر دليل على ذلك فشل الإدارات الامريكية المتعاقبة في تغيير سلوك وتوجهات كل من الدولة والنظام في إيران وسوريا وفي لبنان واليمن.

اٍنّ العقوبات في نهاية المطاف هي أدوات اكراهية يستخدمها صناع السياسة الخارجية الامريكية ويستفيد منها الكيان المؤقت لأنها ثابتة وذات نتائج سريعة في رايه، قادرة على تحقيق النتائج المطلوبة، ولأنها تفترض مسبقًا أن الضرر الاقتصادي سيؤدي إلى نوع من الضغط السياسي الذي سيستنزف القوى المقاومة والدول الداعمة لها وبالتالي سيقلل من خطورة المواجهة والتجييش ضد الكيان. لكن هذه السياسات تصطدم في كل الحالات بصمود من قبل الجهات المستهدفة التي تعمل هي أيضا على انشاء شبكات وعلاقات ونظم اجرائية لحماية ولتحصين نفسها من الاختراقات الامريكية والاسرائيلية. لابد من الاشارة الى أنّ سياسة الضغط الاقصى فشلت في تغيير سلوك إيران وحثها على الاستسلام للإرادة الامريكية من خلال الاتفاق النووي.  كما فشلت ايضا في اخضاع ارادة المقاومة الاسلامية في لبنان ودفعها الى تليين مواقفها الحوارية على الرغم من كل المحاولات الامريكية لاستهداف بيئة المقاومة بكل الوسائل لضرب السلم الاهلي واتهام حزب الله بعرقلة المسار السياسي الحالي، وفرض شروط على السلطة اللبنانية تتمثل في المطالبة بإقصاء حزب الله من المشهد السياسي ومحاصرته. كما فشلت ايضا في احتواء سوريا على الرغم من قساوة الحصار وتداعياته على المستوى الداخلي، كما في اليمن.

من هذا المنطلق يمكن القول اننا نشهد اليوم نشوء نظام اقليمي جديد في مواجهة نظام دولي قديم تقوده الولايات المتحدة ويديره الكيان المؤقت. يعيش العالم اليوم، احداث ومتغيرات كبيرة تنبئ بتحول جذري في العلاقات الدولية والنظام الدولي الحالي الذي بدأ يتهاوى امام السياسات الفاشلة للغرب الذي لم يعد قادرا على مواكبة مصالحه بأدوات واساليب، يبدو انها لم تعد صالحة لمواكبة التطورات على الساحة الدولية.

يشهد العالم اليوم متغيرات جذرية وقد اشار اليها السيد القائد، علي خامنئي، حينما أكّد أنّ "الولايات المتحدة الأميركية أصبحت أضعف يوماً بعد يوم خلال الأعوام الـ 20 الماضية، في سياساتها الداخلية، والخارجية، واقتصادها وأمنها". وأنّ "العالم أمام نظام دولي جديد، على عكس النظام الثنائي القطب"، مضيفاً أنّ "إيران وكل الدول يجب أن تكون فيزيائياً وبرمجياً في هذا النظام الجديد".

امام هذا المتغير الجديد تبدو دول وقوى محور المقاومة في المنطقة الاكثر استعدادا لإنشاء نظام اقليمي جديد ممانع ومقاوم للسياسات الامريكية والصهيونية. فقد أعلن قادة قوى محور المقاومة اثناء انعقاد منبر القدس الافتراضي في 29 نيسان/ابريل 2022، عن عنوان موحّد وهو " القدس هي المحور" في دلالة واضحة على توحيد الصفوف والاهداف لمواجهة العدو. انعقد المنبر في ظروف مشحونة بالأحداث والمتغيرات على المستوى الاقليمي والدولي، بدا فيها الكيان المؤقت، يعاني أزمة في نظامه السياسي، ونقاط ضعف متزايدة بسبب هشاشة جبهته الداخلية، وتراجع قوة الردع. وأكثر ما يخشاه هو اضطراره إلى خوض حرب متعددة الجبهات، وهو يراقب ارتفاع مستوى التنسيق والتعاون بين محور المقاومة. لذا، فهو حاول نزع فتيل المواجهة خلال شهر رمضان، لكنه فشل بسبب اندلاع موجة العمليات العسكرية في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية المحتلَّين.

قدّم قادة المحور في كلماتهم لهذا العام- بلغة واضحة، صريحة وبكلمات دقيقة تأكيدا واضحا على وحدة الصف والموقف واستراتيجية المشروع المقاوم مؤكدين على أنّ محور المقاومة اليوم، بما يشمل من دول على راسها ايران وسوريا وقوى مقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، بات يشكّل نظاما اقليميا حقيقيا، قادر على تغيير المعادلات ومقارعة العدو بالأدوات والأساليب الفاعلة والمتمكّنة ليس فقط من تدمير مخططاته، بل وأيضا انهاء وجوده، انه محور اقليمي صانع للمستقبل، أكّد قادته مرة أخرى على أنّ نهاية الكيان المؤقت باتت على مرمى حجر.

توّجت كلمات قادة قوى محور المقاومة، معادلة استراتيجية جديدة في المنطقة، عنوانها القدس، كمحور للصراع والمواجهة مع العدو، وهو ما يفرض على العدو معادلات اشتباك جديدة لا تمكّنه من الاستفراد بجبهة واحدة، مع إدراكه أن دول التطبيع لن تشكل إلّا دافعاً يعزّز ضرورات تحوّل محور المقاومة إلى حلف مكتمل الأركان أي نظام اقليمي حقيقي ممانع، رافض لكل سياسات الهيمنة الامريكية والاسرائيلية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور