تتعامل واشنطن مع الملف السوري بمنطق مختلف عن الملفات الإقليمية الأخرى. فهي لا تسعى لترسيخ تسوية شاملة أو حلاً يعيد الأمن والاستقرار ويثّبت النظام الحاكم، بل تتعامل مع دمشق كـ "نظام قابل للتحكم" Controllable System لا سيما مع وجود معلومات متداولة في الصالونات الدبلوماسية عن رغبة أميركية غربية عربية لاستبدال الشرع برئيس علماني قادر على طمأنة الأقليات في سوريا، وقادة الكيان في تل أبيب.
هذه الاستراتيجية ظهرت بوضوح خلال زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع الى البيت الأبيض ولقائه الرئيس الأميركية دونالد ترامب، ويمكن تلخيص المقاربة الأميركية الراهنة لسوريا بنقاط ثلاثة:
أولًا: هندسة العقوبات الأميركية
أعلنت واشنطن تعليقًا محدودًا لبعض بنود "قانون قيصر" ولمدة 180 يومًا فقط، ما يعني ان العقوبات لن تٌرفع نهائيا، بل ستبقى سيفاً مسلطاً على حكام دمشق الجدد، فالاستثناءات الأساسية التي تركتها واشنطن تمنع أي استفادة حقيقية لدمشق من تجميد العقوبات. هذا الإجراء ليس خطوة إنسانية ولا سياسية بقدر ما هو هندسة للعقوبات بطريقة غير نهائية تُفتح وتُغلق ساعة تشاء وبحسب السلوك السياسي لدمشق. أي أنها أداة للتحكم بسوريا ضمن سياسة العصا والجزرة، بمعنى آخر واشنطن لا ترفع العقوبات، بل تُعيد برمجتها. وهي رسالة موجّهة بوضوح لدمشق مفادها، إذا تعاونتم معنا لا سيما في الملفات الأمنية سوف نخفّف الضغوط والعقوبات، وإذا امتنعتم نعيدها فورًا.
ثانيًا: اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب…لا تسوية
تسرّبت معلومات _رغم النفي السوري_ عن تموضع أميركي عسكري جديد في قاعدة قرب دمشق، وهي جزء من ترتيبات أمنية غير معلنة بين دمشق وتل أبيب، القاعدة العسكرية ستكون مهمتها مراقبة خطوط الجنوب السوري، وضمان تنفيذ الاتفاق الأمني المزمع بين سوريا وإسرائيل. واشنطن هنا تُحيي نموذجًا سبق أن استخدمته في العراق ولبنان، احفظوا الهدوء جنوبًا، ونحن نضبط الإيقاع شمالًا وغربًا وشرقًا.
ثالثًا: تثبيت معادلة "الأمن أولًا"…دمج قسد
تكثيف الحديث الأميركي عن دمج أو إعادة هيكلة قوات سوريا الديمقراطية الكردية "قسد" في الجيش السوري ليس تفصيلًا. هذا المسار يعكس أهم قواعد المقاربة الأميركية الجديدة:
-الأولوية للمعالجات الأمنية لا السياسية أو الاقتصادية.
-منع أي تمدّد إيراني–روسي في الشرق السوري.
واشنطن تفكّر بمنطق إذا ضُبط الشرق، وضبط الجنوب، وأُعيدت هندسة العقوبات، يصبح النظام السوري قابلًا للإدارة والتحكم. بهذا المعنى، لا تتعامل واشنطن مع سوريا كبلد ينبغي أن ينعم بالثبات والازدهار وإنهاء حالة الحرب فيه، بل كنظام تحت الطلب يجب التحكم فيه واستثماره. وهكذا تبقى سوريا ساحة نفوذ مفتوحة، توازن فيها واشنطن بين الضغط والتهدئة، بحسب الحاجة الإقليمية الأوسع.
توم باراك: سوريا ستساعد في مواجهة حزب الله
تصريحات المبعوث الأميركي توم براك حول استعداد سوريا لـ«المساعدة» في مواجهة الحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله ليست مجرد توصيف عابر، بل تشكّل ترجمة صريحة لوظيفةٍ سياسية–أمنية يجري رسمها لدمشق في المرحلة الجديدة. هذا الخطاب الأميركي يعكس رؤية ترى أن دمشق، بعد زيارة الشرع إلى واشنطن، باتت منصة قابلة للتشغيل ضد القوى التي تصنّفها الولايات المتحدة خصومًا إقليميين. وهنا تكمن الخطورة إذ إن تحويل سوريا إلى طرفٍ مشارك _ولو بصورة غير مباشرة_ في جبهة تستهدف محور المقاومة في المنطقة، يفتح الباب أمام اتجاهات خطرة في السياسة السورية.
الشرع في البيت الأبيض!
أما في الشكل، وبعد نحو 50 سنة من القطيعة دخل أول رئيس سوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض من الباب الخلفي، في مشهدٍ بدا كأنه ترتيب متعمّد لوضعه في موقع الضيف الثانوي لا الرئيس الزائر. كان ذلك مقدّمة لإظهار الخفة الأميركية في التعامل معه. فبدل النقاش السياسي الجاد، بادره ترامب بأسئلة شخصية عن عدد زوجاته، في إهانة مباشرة لمقام رئاسة دولة، ثم قدّم له عطراً وكأنه يقول له "رائحتكم نتنة"، في سلوك يناقض أبسط قواعد اللياقة الدبلوماسية. هذه الحادثة تعكس نظرة واشنطن الأداتية للشرع، باعتباره وسيطًا ظرفيًا لا شريكًا مكافئًا، وتؤكد أن التعامل الأميركي قائم على الاستخفاف لا الاحترام. فأمريكا ليس لديها شركاء، بل عملاء وأدوات.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.