تُظهر المقاربة الإسرائيلية الراهنة تجاه لبنان تحوّلاً واضحاً في الإدراك الاستراتيجي داخل تل أبيب حيال خطر حزب الله المتجدد، سواء في الخطاب السياسي أو في الصحافة العبرية. فقد تقدّم القلق من استعادة الحزب لقوّته وإعادة بناء قدراته العسكرية إلى صدارة النقاشين الأمني والعسكري، حتى باتت أصواتٌ إسرائيلية عديدة تعتبر أن المواجهة المقبلة مع حزب الله باتت حتمية، وإن كانت ساعة الصفر لا تزال غامضة.
وبعد عام واحد فقط على ما وصفته إسرائيل بـ"نصرٍ ساحق" في الحرب السابقة، بدأ يتبدّد ذلك التفاؤل، لتحلّ مكانه قناعة متزايدة بأن الحزب نجح في إعادة بناء منظومته الميدانية وتنظيم خطوط إمداده من إيران، بالتوازي مع نجاح سياسي مكّنه من تجميد ملف نزع سلاحه، وتحويله إلى معادلة داخلية يصعب المساس بها.
في هذا السياق، يتناول مقال البروفيسور إيال زيسر في صحيفة إسرائيل اليوم، ترجمه موقع الخنادق، تقديراً استراتيجياً متشائماً بشأن الوضع على الجبهة الشمالية، معتبراً أن ما يسميه بـ"الهدوء الخادع" مع حزب الله ليس سوى استراحة مؤقتة قبل اندلاع حرب لبنان الثالثة.
يرى الكاتب أن إسرائيل أخطأت بعد الحرب السابقة حين "بادرت إلى اتفاق معيب" وراهنَت على أن الحزب سيتصرّف بمسؤولية وينزع سلاحه، بينما الواقع أظهر العكس. فـحزب الله - بحسب زيسر - أعاد بناء قدراته تدريجياً، وحافظ على دعم البيئة الشيعية في لبنان، واستأنف تهريب الأسلحة من إيران لتعويض ما فقده في الحرب. ويصفه بأنه تنظيم "قليل الكلام" لكنه "واضح في تمسكه بسلاحه وخيار المقاومة".
يشير زيسر إلى أن الحزب يمتلك عشرات الآلاف من المقاتلين الجاهزين، وأن قتْل إسرائيل لـ300 عنصر "لن يغيّر شيئًا في ميزان القوة"، منتقداً ما يصفه بعمليات دعائية إسرائيلية تفتقر إلى الأثر الميداني. ويرى أن الهدوء الحالي ناتج عن حسابات باردة بانتظار اللحظة المناسبة، تماماً كما فعلت حماس.
ويختتم بالتحذير من أن العدّ التنازلي لتجدد الصراع مع حزب الله قد بدأ بالفعل، داعياً "إسرائيل" إلى التحرك الحازم لمراقبة التنظيم وإحباط تهديده قبل أن تباغَت مرة أخرى.
النص المترجم للمقال
بينما كنا نأمل أن يُقرر حزب الله التصرف بمسؤولية ونزع سلاحه، فإن المنظمة الإرهابية تستعيد قوتها، بل وتجد طرقًا جديدة لتهريب الأسلحة من إيران. السؤال ليس ما إذا كانت ستستأنف عملياتها ضدنا، بل متى.
قبل عامٍ واحدٍ بالضبط، انتهى الصراع على الحدود الشمالية مع حزب الله بما بدا وكأنه هزيمةٌ ساحقة. هُزم حزب الله وخسر قادته وكبار قادته، وعلى رأسهم حسن نصر الله، بالإضافة إلى جزءٍ كبيرٍ من قدراته العسكرية، وبدا أنه لن يتعافى أبدًا. في لبنان، انتُخب رئيسٌ وشُكِّلت حكومةٌ أعلنت التزامها بنزع سلاح الحزب، ولم يكن أمام الإدارة الأمريكية، المتفائلة والمنفصلة عن الواقع كعادتها، خيارٌ سوى التأكيد على أن تحقيق اتفاق سلامٍ إسرائيلي-لبناني مسألة وقت.
لكن في الحروب بين إسرائيل والعرب، لا توجد انتصارات مطلقة أو قرارات حاسمة. نهزم جيوش العدو، لنكتشف بعد أيام قليلة من إعلان وقف إطلاق النار أنها لا تزال حية ترزق. كان هذا هو الحال بعد الانتصارات العظيمة في حرب الاستقلال وعملية قادش، وكذلك في حرب الأيام الستة، عندما جدد المصريون والسوريون إطلاق النار بعد أيام قليلة من هزيمتهم.
في الحرب الحالية، يُعيد التاريخ نفسه. هذا هو الحال مع إيران، التي تُعيد بناء قدراتها تدريجيًا وتستعد للجولة القادمة، ومع حماس، التي لا تزال تُسيطر على القطاع بلا منازع. لكن يبدو أن لبنان يُمثل حالة فريدة من نوعها لفشل ذريع. ففي النهاية، لم يُمارس أي ضغط على إسرائيل لوقف قصف حزب الله، وقد بادرنا نحن، بمبادرة شخصية، إلى إبرام اتفاق معيب ومُشكوك فيه، كان يعلم الجميع أنه لا يُتيح لحزب الله أي فرصة للوفاء بشروطه.
كنا نعلم، ومع ذلك اتفقنا، آملين أن حزب الله - التنظيم الشيعي المتطرف الذي يُشكّل صراعه مع إسرائيل جوهر وجوده - سيُقرّر التصرّف بمسؤولية ويُلقي سلاحه. وبالطبع، كنا نأمل أن تُلقي الدولة اللبنانية - التي وصفها المبعوث الأمريكي توم باراك الأسبوع الماضي، عن حق، بأنها دولة فاشلة ومُختلّة وظيفيًا - بجيشها في وجه حزب الله، الأقوى والأكثر تصميمًا من الجيش اللبناني بعشرات المرات.
وهكذا، بعد عام من النصر الكبير في لبنان، يتبين أن شيئًا لم يحدث، وأن إنجازات الحرب تتآكل. ورغم أن حزب الله يتجنب الظهور العلني، ويمتنع عن العمل ضد إسرائيل، أو حتى الرد على هجماتها، فإنه يفعل ذلك ليس لأنه أصبح "متحمسًا للصهيونية"، بل لاعتبار بارد ورصين، تمامًا مثل حماس، أن هذا هو الوقت المناسب للتراجع حتى يهدأ الغضب، وانتظار فرصة سانحة.
في هذه الأثناء، يستعيد التنظيم قوته، ويحافظ على الدعم بين أفراد المجتمع الشيعي في لبنان، بل ويجد طرق تهريب الأسلحة من إيران لتحل محل تلك التي فقدها مع سقوط نظام بشار الأسد.
حزب الله قليل الكلام، لكنه يُؤكد أنه لا ينوي تسليم سلاحه، وأن "المقاومة" خياره الاستراتيجي. السؤال ليس ما إذا كان سيستأنف عملياته ضدنا، بل متى.
وأمام هذا الواقع تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي، ويبدو أن بيننا من يفتقد الأيام السعيدة لـ "المقاومة الفلسطينية"، التي نفذنا خلالها عدداً لا يحصى من العمليات الصغيرة الناجحة التي لم تسفر عن أي تغيير حقيقي في الواقع.
بينما تتباهى إسرائيل بحرية التصرف التي تتمتع بها في لبنان، وبالضربات التي توجهها لإرهابيي حزب الله الصغار، يبدو أن هذه الأفعال تستهدف الرأي العام والإعلام أكثر مما تهدف إلى إيذاء حزب الله بشكل مؤلم وشديد. هل يظن أحد حقًا أن حزب الله، الذي يملك عشرات الآلاف من المسلحين تحت تصرفه، سيستسلم لأننا قتلنا 300 من عناصره خلال العام الماضي؟
لقد خفّض حزب الله من شأنه، ولم نعد نسمع تهديداتٍ وتباهيًا بقدراته، التي كانت تُؤرق صناع القرار الإسرائيلي. أصبح الحزب أقلّ كلامًا، ويتحدث بضعف، لكنه لا يزال يُعلن بوضوحٍ وحزمٍ أنه لا ينوي التخلي عن سلاحه، وأن "المقاومة" خياره الاستراتيجي.
حزب الله يحسب خطواته بالسنوات، لذا من وجهة نظره، قد يدوم الهدوء الخادع على الحدود الشمالية طويلًا. لكن السؤال ليس ما إذا كان التنظيم سيجدد عملياته ضدنا، بل متى.
من المناسب والمستحب أن تتحرك إسرائيل بعزم أكبر لإحباط التهديد القادم من الشمال، وإن لم تفعل، فعلى الأقل أن تراقب حزب الله عن كثب، حتى لا نفاجأ مرة أخرى. ففي نهاية المطاف، بدأ العد التنازلي لتجدد الصراع على الحدود اللبنانية.
المصدر: إسرائيل اليوم
الكاتب: البروفيسور إيال زيسر