الثلاثاء 26 نيسان , 2022 05:06

الصهيونية على نقيض تام مع اليهودية!

تنقسم الآراء داخل البيت اليهودي، حول العلاقة بين اليهودية والصهيونية، فالرأي الأول يقول بأنه لا يوجد فرق بين اليهود والصهاينة وانهما فكران في جسد واحد، فيما يشير الثاني الى وجود فروق أساسية بين الخيارين، وربما يذهب الى أكثر من ذلك للقول بأن أصحاب هذا الفكر سيكونون الحبر الذي سيكتب به نهاية الكيان الصهيوني، وقد دافعت عن هذا الرأي العديد من الحركات والمجموعات الدينية.  

وفي الآتي، عرض لأبرز الحركات التي عارضت الصهيونية ورفضت إقامة "دولة إسرائيل" في فلسطين وقالت إن القدس لا يمكن لها أن تكون عاصمة لـ "إسرائيل"، وشرحت الفروقات الدينية بين اليهودية والصهيونية.

_ جذور الصراع بين اليهودية والصهيونية

في طريقها إلى فلسطين، راكمت الحركة الصهيونية الكثير من الانتقادات والمواقف المعارضة من داخل الصف اليهودي نفسه، الأصولي منه قبل اليساري أو العلماني، فانطلق النقد العلماني من ضرورة اندماج الأقليات اليهودية مع مجتمعاتها، واعتبار الصهيونية ردة حضارية لا تعالج مشكلة الغيتوهات اليهودية وإنما تزيدها بخلق غيتو كبير باسم دولة. على المستوى الفردي، ظهرت الاحتجاجات اليهودية الأصولية على الكيان الصهيوني الوليد تباعا ومن مختلف البقاع التي يسكن بها اليهود، فكتب الحاخام "موشيه هيرش"، المولود بفلسطين وأحد زعماء حركة "ناطوري كارتا" المناهضة للصهيونية، في مقال له عام 1978 في صحيفة "واشنطن بوست" الامريكية أن "الصهيونية على نقيض تام مع اليهودية…إنها تريد تعريف الشعب اليهودي بأنه وحدة قومية، وهذا هو الكفر نفسه… وهم حين يفعلون ذلك عليهم أن يتحمَّلوا كل العواقب. تلك الرؤية التي رأت في الحركة الصهيونية كفرا وانحرافا عن موروث الآباء نجدها في تصريح حاخام آخر هو "إلمر برجر"، الرئيس الأسبق للمجلس الأميركي اليهودي، حين أعلن عام 1968 في جامعة "ليدن" الأميركية أن "أرض صهيون ليست مقدسة إلا إذا سيطرت عليها شريعة الرب"، وقال: "لا يمكن لأي إنسان أن يقبل الادعاء بأن إنشاء دولة إسرائيل الحالية كان تحقيقا للنبوءة... بل إن الأمر تعدَّى منزلة الحاخامات وكُتَّاب الرأي، إذ أبدى السير "إيدون مونتاجو" -الوزير اليهودي بحكومة بريطانيا إبان صدور وعد بلفور- معارضته الشديدة للصهيونية ووصفها بأنها توجُّه شرير، وعقيدة سياسية مُضلِّلة لا يمكن لأي مواطن محب لوطنه الدفاع عنها، وأن عودة اليهود من المنفى -حسب اعتقاده- يجب أن تتم بإرادة إلهية وليس بإرادة الصهاينة، بل واقترح حرمان كل صهيوني حق التصويت داخل المملكة المتحدة، وأكَّد أن وعد بلفور يُسيء لليهود؛ إذ يحرمهم من حقوقهم بوصفهم مواطنين في البلدان التي ينتمون إليها. في سياق متصل، يذكر الباحث "جدع جلادي"، وهو مفكر يهودي عربي، أن هذا الرفض اليهودي للصهيونية كان على النسق نفسه في كثير من المؤسسات اليهودية العربية وعلى لسان الكثير من مشاهيرهم، ويُرجع ذلك إلى عدة أسباب -بخلاف النقد العقدي وعقيدة الماشيح- منها تمتُّع اليهود بجو من التسامح الديني بوصفهم أهل ذمة في رحاب العالم الإسلامي، فلم يعانوا الاضطهاد والعنصرية مثل يهود أوروبا، بل كانوا يشعرون أنهم مواطنون من الدرجة الأولى في أوطانهم العربية. ومن مظاهر هذا الرفض أن تأسست الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية بمصر عام 1946، مُعلنةً عن مبادئها التي تلخَّصت في مبدأين محوريين هما؛ الكفاح ضد الصهيونية التي تتعارض مع مصالح كلٍّ من اليهود والعرب، وتعزيز الربط الوثيق بين يهود مصر والشعب المصري في الكفاح ضد الاستعمار.  بدوره، أعلن المؤرخ الإسرائيلي "زئيف هرتزوج" أن الأساطير التوراتية التي يتذرَّع بها الصهاينة لإثبات الحق التاريخي في أرض فلسطين إنما هي دعوى زائفة لا برهان تاريخي عليها، الأمر الذي وافقه المؤرخ والمحاضر بكلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن "شلومو ساند" مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي" الذي نص فيه على أن الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل حتى يعودوا إلى فلسطين، وهو ما تؤكده -بالفعل- حيرة الحركة الصهيونية في بدايتها حول الوطن المنشود للهجرة، فكانت الأرجنتين وموزمبيق والكونغو وقبرص وجنوب أفريقيا -بجانب فلسطين- كلها اقتراحات، مطروحة للمفاضلة .

في سياق مُشابه، كان الصراع اليهودي الصهيوني يتخذ شكلا أكثر حدَّة واحتكاكا مما سبق، وهو صراع يستمر بوتيرة مؤرِّقة لحكومة الكيان المؤقت حتى الآن بين الجماعات الدينية اليمينية المتطرفة والحكومة الإسرائيلية حول الدولة ومؤسساتها وما إلى ذلك. ولفهم هذا الصراع فإننا بحاجة إلى تتبُّع تاريخي سريع للفصائل الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي، التي تتفرَّع من اتجاهين رئيسيين هما: الاتجاه الإصلاحي، والاتجاه الأرثوذكسي:

بالنظر إلى الحركة الإصلاحية، فإنها قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر بألمانيا، وتحديدا عام 1840، وطالبت باندماج الأقليات اليهودية كليا في ألمانيا وتنقية اليهودية من الشوائب التي علقت بهم، بما في ذلك تغيير لغة العبادة من العبرية إلى لغة البلد التي تؤدَّى بها الصلاة، وحذف كلمتَيْ "صهيون" و"القدس" من كل الصلوات، والتساهل في قدسية يوم السبت والأكل الحلال، إلخ. شكّلت حركة الإصلاحيين أكبر عقبة منظمة في طرق الصهيونية، كونها أوسع الفئات اليهودية نفوذا في الولايات المتحدة الأميركية والغرب، فعقدت العديد من المؤتمرات الداعية لمُعاداة الصهيونية، كمؤتمر الحاخامات بـ "فرانكفورت" عام 1869، الذي أظهر فيه الإصلاحيون رفضهم الصلاة من أجل العودة إلى أرض الآباء -كما زعمت الصهيونية-، وأعلنوا أن آمالهم لا تزال مربوطة بوطنهم ألمانيا، وأن الرغبة في إقامة دولة يهودية بفلسطين منعدمة تماما، الأمر الذي تكرَّر -تقريبا- في العام نفسه ولكن في "فيلادليفيا" بالولايات المتحدة.

الأرثوذكسية هي أقرب التعبيرات عن الأصولية، التي نشأت بوصفها رد فعل للحركة الإصلاحية، لكنها -للمفارقة- وافقتها في الدفاع عن "الشتات" اليهودي حيث هو، والعداء التام لأي وسيلة تُعجِّل بإنشاء مملكة اليهود المزعومة، واعتبرت الحركة أن أي دعوة تنظر إلى اليهود نظرة سياسية أو قومية هي شيء مخالف للدين وبعيد عنه، بل اعتبرت الصهيونية -من الأصل- تعبد الإله الخاطئ.  ولأن الحركة الأرثوذكسية، المُسمَّاة بعد ذلك بالحريديم -أي الأتقياء-، كانت أشد عداء للصهيونية من غيرها، فقد أجبر مجلس الحاخامات الألماني -حاخامات الاحتجاج- "هرتزل" في عام 1897 على تغيير مكان المؤتمر الصهيوني الأول من "ميونخ" إلى "بازل"، وأصدروا بيانا مناهضا عقب المؤتمر أعربوا فيه عن اختلاف مساعي الصهاينة مع مبادئ جماعتهم الأصولية، وانتهجوا من هذه اللحظة خط المعارضة الأشرس للصهيونية من داخل الصف اليهودي.

_ تداعيات الصراع على مستقبل الكيان الصهيوني:

في أكتوبر/تشرين الأول عام 1911، عقد في "فرانكفورت" بألمانيا اجتماع شارك فيه عدد من يهود ألمانيا والمجر ولتوانيا وبولندا؛ لمناقشة قضية لغة العبادة والموقف من الحضارة الغربية وما إلى ذلك، حتى اتُّفِق على الأُسس الأولى لقيام حزب "أغودات يسرائيل" -رابطة إسرائيل- بوصفه منظمة عالمية، وهو الحزب الذي ناصب الصهيونية العداء منذ تأسيسه ببولندا عام 1912، فسعى إلى توحيد المجموعات الأرثوذكسية الشرقية والغربية بهدف تشكيل خيار بديل للمنظمات اليهودية في مواجهة الحركة الصهيونية. وحسب المؤرخين، فقد ارتكز الحزب على الأفكار الأرثوذكسية وانطلق منها في وضع برامجه السياسية، واهتم بتشجيع التعليم التوراتي، حتى بدأ نشاطه على أرض فلسطين بالقدس عام 1919 على يد طائفة أرثوذكسية، واعتبر أن معارضة الصهيونية أحد أهم مبادئه الأساسية، فبدأ هذه المعارضة بحملات إعلامية واسعة ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، وعارضها في شهادتها أمام عصبة الأمم، ورفض الانضمام إلى الجماعات الصهيونية وحافظ على انعزاليّته عنها، وقدَّم نفسه مُتحدِّثا باسم اليهود المعارضين للصهيونية في محاولة لإنشاء تنظيم يهودي غير سياسي ليحل محل الحركة الصهيونية، حتى اغتيل "يعقوب ديهان"، المتحدث السياسي للحزب عام 1924، على يد العصابات الصهيونية آنذاك. مع الإعلان عن قيام "دولة الكيان" عام 1948، بدأت حِدَّة سياسات الحزب في الخفوت تدريجيا، فتوافق مع بعض المواقف الصهيونية من الاستيطان والهجرة وإقامة الدولة، شريطة الالتزام بالشريعة اليهودية، مما جعل الحزب في النهاية أضعف من اعتباره عائقا حقيقيا أمام الصهيونية، الأمر الذي رفضه بعض أبناء الحزب وقرَّروا الانشقاق عنه ليمارسوا مناهضة الصهيونية بشكل مستقل. وتُعَدُّ هذه الانشقاقات هي السمة الأبرز للتيار الأرثوذكسي بوجه عام؛ حيث ضم بداخله العديد من الأجنحة المتصارعة متباينة القوى، لكن رغم اختلاف وتعدُّد الأحزاب والجماعات الدينية المناهضة للصهيونية، لم يظهر حتى الآن ما هو أشد عداء للصهيونية وعنفا من جماعتَيْ حريديم "ساطمر" و"ناطوري كارتا" على وجه التحديد.

بخلاف الكثير من الحركات والأحزاب التي هدأت وتيرة صراعها مع حكومة الكيان بمرور الزمن، بقي اليهود الحريديم في جماعتَيْ "ساطمر" و"ناطوري كارتا" من أعنف اليهود المتدينين وأشدهم عداء للحركة الصهيونية وحكومتها حتى الآن، فمن المعروف أن الحركة الصهيونية لم ترَ منذ بدايتها عداء من زعيم ديني يهودي مثلما رأت من الحاخام "يوئيل تتلباوم" الزعيم الروحي لحركة "ساطمر"، الذي اتهم الصهيونية بالهرطقة وأنها مروق عن الدين". ذهب الحاخام لأبعد من ذلك -كما يذكر "عمارة"- حين اعتبر الهولوكوست عقابا من الله للشعب اليهودي الذي خالف وصاياه على يد الحركة الصهيونية، بل إنه اتهم الصهيونية صراحة بأنها مَن دبرت الهولوكوست بالاشتراك مع النازيين لإجبار يهود أوروبا الباقين على الهجرة نحو فلسطين.

سيطرت الحركة على واحدة من أكبر المنظمات اليهودية العالمية وهي "اتحاد حاخامي الولايات المتحدة" التي أصدرت بيانا حادًّا عام 1982 تهاجم فيه الصهيونية و"دولة إسرائيل"، والأحزاب الدينية المنضمة إلى الحكومة -كحزب المفدال- بحجة أن هذا الانضمام يقلب موازين القوى حين ينضم الملتزمون بالتوراة إلى الأشرار ويساعدونهم في إنشاء حكمهم، وقالوا بالنص إن هؤلاء المنضمين "مسؤولون مسؤولية مباشرة عن الأعمال التي يقوم بها هذا الحكم الكافر… لقد اختاروا الانضمام إلى حكومة تتسابق مع الدول بغطرسة مخيفة… إن روحا من الإلحاد تسكن داخل كل مَن يعتقد بأن اليهود يتمكَّنون من كسر طوق الشتات وإنشاء دولة مستقلة قبل ظهور المُخَلِّص على المنوال نفسه تأتي حركة "ناطوري كارتا" -أو حراس المدينة- التي يعود ظهورها الفعلي لعام 1935 عندما انشقت عن حزب "أغودات يسرائيل" بعدما بدأ ينصهر مع الصهيونية شيئا فشيئا، ويبلغ عدد أتباعها الآن قرابة نصف مليون نسمة في مختلف أنحاء العالم، وعشرات الآلاف داخل الأراضي المحتلة متمركزين في حي "مئة شعاريم" بالقدس ومدينة "بني براك" حديثة التأسيس، التي أضحت أحد أهم معاقل الجماعات الدينية في البلاد. أما عن عقيدة الحركة فهي تتخذ موقفا عدوانيا رافضا تجاه الصهيونية للأسباب الدينية المذكورة وتعتبرها حركة كفرية، كما أن أتباعها يقاطعون توقيت الدولة وإعلامها كله -عدا البرامج الدينية في الإذاعة- ويعتمدون توقيتا خاصا يبدأ فيه اليوم في منتصف النهار، ويمتلكون صحيفة خاصة لا تكف عن مهاجمة الصهيونية، هي صحيفة "السور"، التي يعني اسمها السور العازل بين اليهودية والصهيونية، كذا يقاطعون العملة الإسرائيلية ويصكّون عملة داخلية خاصة بينهم. لهم موقف حاد من الخدمة العسكرية، حتى إن الحاخام "هيرتش" يقول في هذا الصدد: "لماذا يفكرون في تجنيدنا وهم لا يُجنِّدون العرب؟ نحن أكثر كراهية لهم من العرب، وإذا أعطونا سلاحا فسنطلق النار عليهم". كما أنها الحركة الأكثر دفاعا عن حق الفلسطينيين في أرضهم، ففي حديث أجراه الحاخام "ديفيد فلدنان" مع جريدة الوطن القطرية عام 2005، قال: "إن الشعب الفلسطيني له الحق باستعادة أرضه كيفما شاء، ونحن واثقون بأن اليهود الذين يقطنون إسرائيل سيتركونها إذا عرفوا أن العرب لن يعمدوا إلى قتلهم، بعكس ما تشيع الصهيونية منذ عام 1948". وفي هذا السياق قال الحاخام "ديفيد وايس": "منذ قيام دولة إسرائيل" ونحن نقوم بمظاهرات ضد الدولة ويضربوننا أثناء المظاهرات بلا رحمة". وفي فبراير/شباط عام 2015، وجَّهت الحركة رسالة إلى الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" بعد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" يهود أوروبا إلى الهجرة الجماعية، قالت فيها: "إن رئيس الوزراء الإسرائيلي تصرَّف مرة أخرى وكأنه حامي يهود العالم ومُمثلهم، الصهاينة يعتبرون أنفسهم منقذي اليهود، لكنهم في الحقيقة يُشكِّلون خطرا كبيرا عليهم، وهم السبب في زيادة العداء لليهود في العالم، ومشروعهم الصهيوني هو سبب كراهية اليهود. لذا تعمل الحركة دوما على تحذير اليهود من الهجرة إلى فلسطين، وهو ما نجده جليا على لسان الحاخام "ديفيد وايس" المتحدث باسم الحركة، إذ يقول: "الحاخامات الكبار في حركتنا دعوا إلى أنه لا يجب العيش في ظل الصهيونية، هناك عشرات الآلاف الذين تركوا فلسطين حتى لا يعيشوا في ظل الصهيونية… لكن توجد مدرسة فكرية أخرى في الجالية اليهودية لا تريد أن تترك إسرائيل على أساس أنها تريد أن تحارب إسرائيل والصهيونية من الداخل.

بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، قال يوئيل كراوس، اليهودي المتشدد ذو الصلة بحركة (ناطورى كارتا): "بدأنا نشعر بأنه من المستحيل أن نعيش هنا كيهود متدينين، يجب أن نفر من هنا. لطالما قال اليهود المتدينون إن الوضع يصل إلى نقطة الانهيار، لذا فإننا إذا وصلنا إلى إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، نكون قد وصلنا إلى هذه النقطة، وليس هناك ما هو أسوأ من ذلك". واضاف: "هذا ليس إعلانًا فحسب، بل سيكون له الكثير من التداعيات." وتعتبر (ناطورى كارتا) التي تعني بالعبرية (حراس المدينة)، حركة يهودية متشددة تأسست عام 1938، وترفض الصهيونية بكل أشكالها، وتعارض قيام "دولة" إسرائيل من منطلق إيمانها بأن اليهود محرومون من قيام دولتهم حتى نزول المسيح.

من ناحية أخرى، وجّه الحاخام اليهودي الأمريكي المناهض للصهيونية آرون تيتلباوم، انتقادًا شديدًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإعلانه القدس عاصمة لإسرائيل. وقال تيتلباوم وهو قائد واحدة من جماعتي طائفة (ساتمار) اليهودية المناهضة للصهيونية، أمام آلاف الأشخاص في نيويورك، إن ترامب لا يمتلك حق إعلان القدس عاصمة لإسرائيل. ونسب واضاف: "نعلن باسم اليهودية الحريدية أن القدس – المدينة المقدسة – لن تكون عاصمة للدولة الصهيونية، حتى إن قال الرئيس الأمريكي ذلك". وأضاف تيتلباوم: "كما لم يعترف يهود الحريديم بإعلان الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان يهودية إسرائيل في عام 1948، لن نعترف أيضا بهذا الأمر الآن". متابعًا، القدس مدينة مقدسة ومدينة تقوى، والصهيونية لا صلة لها بالقدس."

في السنوات الأخيرة، ارتفعت أصوات كثير من المفكرين اليهود، الذين يعتبرون الصهيونية العالمية وجوداً طفيلياً يفترس البشرية، ويحاول السيطرة على العالم، ويتخذون من القضايا العربية مواقف منصفة، بل يلعبون دوراً بارزاً في تنوير العالم بأساليب الكيان الصهيوني المخادعة في سلب الحقوق. إلا أن العرب لم يحسنوا استغلال هذه الورقة لصالحهم في الصراع العربي الصهيوني للأسف، ولم يحاولوا تقديم هؤلاء للعالم لكشف الوجه الحقيقي للممارسات الصهيونية، خاصة أن هذه الشخصيات اليهودية التي تغرد خارج السرب، أصواتها مسموعة لدى الغرب، وتتمتع بقدر كبير من الصدقية. ولا بد لنا هنا من وقفة لتوضيح الهدف من فكرة استعراض مجموعة من المفكرين اليهود المعادين للصهيونية، فهي ليست من باب "وشهد شاهد من أهلها" فقط، أو من باب الترويج لفكرة الحوار مع الآخر أو الاختراق، ولكنها محاولة للعثور على المفاتيح المنسية واستخدامها، لعل أحدها يساهم في فتح الأبواب المغلقة.

في سبعينيات القرن الماضي، عندما جرت إقامة حركة "الفهود السود" في داخل الكيان عام 1971، احتجاجا على الظلم والتمييز والتفرقة التي يتعرض لها يهود الدول العربية منذ إقامته في عام 1948، بمساعدة عمال "وحدة الشارع" التابعة لدائرة العمل الجماهيري التابعة لبلدية القدس الذين احتجوا على ما سموه، في حينه، تجاهل النظام الرسمي للمشاكل الاجتماعية الحادة، والقتال من أجل تغيير مستقبلهم نحو الأفضل. وأخذت حركة الاحتجاج اليهودية الشرقية اسمها من حركة الاحتجاج الأمريكية، التي شكلها الأمريكان من أصول إفريقية. وكان من أبرز وجوه حركة "الفهود السود" الذين عايشوا وواكبوا انطلاقتها، رؤفين افرجيل، سعدية ميرتسيانو، تشارلي بيتون، رافي مريتسيانو، وغيرهم. لقد نجح هؤلاء في تجنيد جمهور واسع يؤمن بحركتهم ومقتنع بقدرتها على تحسين الوضع، ونجحوا أيضا في تجنيد أوساط إعلامية، مثل الصحافيين باروخ ندل، حايم غوري، عاموس كينون، الذين عملوا على رفع وزيادة الوعي حول هذا النضال والصراع الذي تخوضه الحركة. كذلك تذكرنا هذه الحركات بحركة "متسبين" التي أنشئت عام 1962 من عدد من الشيوعيين المؤيدين للصين. وعرفت بعدائها الشديد للصهيونية وإدانتها لوجود (دولة إسرائيل) لأنها قاعدة للإمبريالية والاستعمار في منظومة الشرق الأوسط. ويعد ناتان فاينشتوك من أشهر منظريها. وقد ألف كتاباً بعنوان "الصهيونية ضد إسرائيل".

من بين اليهود المعادين للصهيونية أيضا: نعوم تشومسكي، الموسیقي جلعاد اتزمون المعادي ّ للصھیونیة، الذي هاجر إلى لندن ومزق ھویته الإسرائيلية، فيلتسيا لانغر، إيلان بابيه، ياكوب رابكين والمئات غيرهم. النقلة النوعية لهؤلاء، أنهم أصبحوا لا يطيقون العيش في إسرائيل، ويغادرونها، صحيح أنهم أفراد قلائل، لكن ظاهرتهم تتزايد.

أمام هذه الحركات والتجمعات والمواقف، لا يجب أن نلجأ إلى المُسلَّمة البسيطة التي تقول: ما دام هناك يهود يرفضون الصهيونية في فلسطين فليتركوها ويرحلوا، لأن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؛ فهناك فريق منهم يرى أنه يتحتم محاربة الصهيونية من الداخل، وهم يعتزلون الدولة تماما، وهناك مَن يراها أرضا مقدسة للعبادة بصرف النظر عن "إسرائيل"، كما أنه كانت هناك أقلية يهودية فلسطينية، وتلك الأقلية تعتبر نفسها فلسطينية لدرجة أن حركة "ناطوري كارتا" قاطعت الرئيس الراحل "ياسر عرفات" ومنظمة التحرير الفلسطينية -لبعض الوقت- بعد اتفاقيات اوسلو عمليا مقابل سيطرة المنظمة على الضفة وقطاع غزة، إلى جانب دعم الحركة لأهالي المعتقلين والمصابين الفلسطينيين ماديا وتعاطفهم معهم؛ إذ يذكر "ديفيد لانداو" في كتابه "الأصولية اليهودية" إحدى رسائل الحركة التي ورد بها: "نحن اليهود الفلسطينيون المناهضون للصهيونية نُعبِّر عن تعاطفنا معكم ومودتنا لكم، نحن إخوانكم الفلسطينيون".

مع هذا، لابد من التأكيد أن الرفض اليهودي للصهيونية يتفاوت بين الجماعات والأحزاب، ولا يجب تفسير كل المواقف الرافضة على أنها تعاطف مع الحقوق العربية المسلوبة، فبعض الحركات الرافضة للصهيونية -كحركتَيْ "ساطمر" و"حبد"- تتبنَّى رؤى عنصرية للآخر بصفة عامة، وللعرب بصفة خاصة، وترى أنه لا وجود للدولة اليهودية المقدسة إلا بعد طرد العرب من أرضهم. أيضا يُشير إلى أن الإغراءات المادية التي يُقدِّمها الكيان الصهيوني تلعب دورا كبيرا في تبديل بعض الحركات الدينية لمواقفها، حيث تتجه نحو الذوبان في الدولة، وأن الأساس العِرقي الذي قامت عليه هذه الحركات هو ما جعل من العسير جدا توحيدها، فكانت عملية استمالتها -تباعا- أسهل بكثير.

في النهاية، لا تنفك العلاقة بين اليهودية والصهيونية، وما يتمخض عنها من إشكاليات، أن تعلن عن نفسها مرة بعد مرة، فالصهيونية لا تكف عن توظيف الدين سياسيا، والمتدينون لا يكفّون عن إعلان رفضهم للصهيونية وفضح زيفها، لذا يبقى السؤال: هل يحمل الكيان الصهيوني عوامل فنائه بداخله؟ أم أن هذا الصراع يمكن احتواؤه وصهينة طرفه الأخير المُتمثِّل في الحريديم الأصوليين؟

من المهم التساؤل عن حجم الجهود والتأثير والفاعلية التي يبذلها يهود العالم من الشخصيات والجماعات المناهضة للصهيونية، في التصدي للدعم الأمريكي والغربي اللامتناهي للكيان الصهيوني المؤقت. كما التساؤل أيضا عن حجم وجدية مشاركتهم في المعركة ضد هذا الكيان المجرم العنصري الذي يقدم نفسه بصفته وطنا لكل يهود العالم وحامى حماهم. يبقى السؤال ما الذي يمكن ان يقوم به هؤلاء المعارضون الرافضون للصهيونية في القضايا التالية تحديدا:

_ نقد ودحض وهزيمة الافكار والاساطير والروايات الصهيونية الزائفة وسط تجمعات اليهود في العالم الغربي.

_ الضرب في المنظمات والجماعات واللوبيات الصهيونية في العالم، مع هزيمتها وتفريغها من منتسبيها وانصارها.

_ مع تأسيس لوبيات وجماعات ضغط مضادة من اليهود غير الصهاينة تماثل وتتفوق على منظمات مثل منظمة "الايباك" قادرة على تغيير اتجاهات الرأي العام وموازين والقوى الانتخابية وتركيبة المجالس التشريعية في بلدانها ضد الصهيونية و(الكيان الصهيوني المؤقت).

_ نزع وتجريد (الكيان الصهيوني المؤقت) من أي شرعية لتمثيل يهود العالم.

_ ادانة وتجريم وتعويق هجرة اليهود الى (الكيان الصهيوني المؤقت)، والتأكيد والنضال من أجل اندماجهم فى اوطانهم.

_ تشجيع ودعم وتمويل الهجرة المضادة من هذا الكيان المؤقت مع التأكيد على أن انهيار هذا الكيان مرتبط بالتوقيت وعليه، لم يعد الوطن النهائي لليهود ولا الوطن الامن لهم.

_ الضغط على الحكومات والبرلمانات في مجتمعاتها لسحب دعمها للكيان المؤقت والامتناع عن مدها بالأموال وبالسلاح.

_ المطالبة بتطهير المنظومات التشريعية الامريكية والاوروبية من أي قوانين تنحاز لإسرائيل وتناصر الصهيونية.

_ التصدي لحملات التبرع للكيان المؤقت، بل وتنظيم حملات مضادة لدعم الشعب الفلسطيني.

_ رفض المساواة بين العداء للكيان ومعاداة السامية.

_ تنظيم لقاءات مع الدول والحكومات العربية المعترفة والمطبعة مع الكيان المؤقت، ومطالبتها بسحب اعترافها والغاء معاهدتها مع الاحتلال وقطع علاقاتها معه.

_ تنظيم حملات يهودية عالمية للمطالبة بعودة قرار الامم المتحدة باعتبار الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، الذي تم الغائه عام 1991. وأدوار ومعارك أخرى كثيرة

هناك العديد من الأسباب التي تستوجب طرح موضوع ظاهرة اليهود ضد الصهيونية، ليس لأنه موضوع جديد او متداول بل لأننا أصبحنا في مرحلة حساسة جدا من الصراع الوجودي للكيان الصهيوني نفسه، وتتطلب النظر في هذه الظاهرة من زاوية مختلفة:

أولا، ما أحوجنا هذه الايام ونحن بصدد تآمر أمريكي صهيوني عربي رسمي مشترك، لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، وذلك باستهداف القدس والمقدسات لاستكمال مشروع الاستيطان والتهويد، الى حشد جهود كل أنصار فلسطين ومناهضي (الكيان) في العالم، وفى القلب منهم جماعات اليهود المناهضين لإسرائيل الذين سيكون لهم، ان صدقوا، تأثير أكبر من غيرهم على الراي العام الأمريكي والغربي، حيث لن تفلح الدعايات الصهيونية باتهامهم بمعاداة السامية.

ثانيا، ان هناك بعض الاصوات الفلسطينية والعربية التي تشكك في مصداقية ظاهرة “يهود ضد الصهيونية”، وتدعى انها جماعات موجهة من قبل الحركة الصهيونية العالمية، بهدف تخفيف آثار الاحتلال والارهاب الصهيوني على سمعة اليهود واليهودية في العالم.

ثالثا، انه بالفعل إذا لم تلتزم حركات اليهود المناهضة لإسرائيل بتنفيذ ما ورد من اهداف ومعارك، فانه لا جدوى تذكر من التفاخر كل حين وآخر بمواقفهم وبياناتهم الشاجبة لإسرائيل، بدون أي فاعلية تذكر او تأثير.

رابعا، ان في المقارنة بين ما يتعرض له العرب والمسلمون من شيطنة وهجوم واسلاموفوبيا نتيجة مواقف واعمال ترتكبها عناصر قليلة ومحدودة منهم، وبين فرض امريكا والغرب لحظر حديدي على توجيه أي نقد لليهود عامة او لإسرائيل على وجه الخصوص نتيجة كل اعمال العدوان وجرائم الحرب التي ترتكبها ليل نهار، نقول في المقارنة بين الحالتين، كشف لمدى العنصرية والاستخفاف والاحتقار والكراهية لكل ما هو عربي وإسلامي، بشكل لا يمكن قبوله أو التعايش معه.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور