الجمعة 04 شباط , 2022 09:39

الجامعة اللبنانية: من المستفيد من تهجير أساتذتها وعقولها!

اعتصام الأساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانية

في وقت وصل فيه الانهيار الاقتصادي في لبنان الى ذروته وأرخى بتداعياته التي تمثّلت ظروفاً معيشية خانقة لدى الشعب اللبناني بجميع فئاته، نتيجة اعتماد الاقتصاد الريعي –بشكل ممنهج – لا سبيل للدولة للنهوض من الأزمات هذه سوى الاستثمار في العقول والقدرات البشرية والطاقات بهدف التوصّل الى الاقتصاد المنتج، اقتصاد المعرفة. الا ان الصرح الأول والأساسي لتأسيس هذه الكوادر البشرية في البلد – الجامعة اللبنانية وأساتذتها وطلابها– يعاني من مشاكل متراكمة تهدّدها جدياً!

حيث شهدت السنوات الماضية العديد من الإضرابات، ومنها المفتوحة في سياق مطالبة الأساتذة بحقوقهم فيما تفاقمت مشاكل الجامعة اللبنانية مع الأزمة الاقتصادية منذ العام 2019 ما وسّع المس بحقوقهم.

أولاً، على المستوى المالي

تقتصر ميزانية الجامعة اللبنانية على مبلغ لا يتجاوز الـ367 مليار ليرة لبنانية، وهي الميزانية المُقرّة منذ سنوات، فيما تعتمد الحكومة اللبنانية نفس هذه الميزانية اليوم أيضاً على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد الطلاب الذين وصلوا الى حوالي 86 ألف طالب، بالإضافة الى 10آلاف موظف إداري وغير إداري، وأكثر من 5000 أستاذ بين متعاقد ومتفرغ وملاك. وأيضاً مع الانهيار الهائل لسعر صرف الليرة مقابل الدولار، حيث تراجعت قيمة ميزانية الجامعة من نحو 244 مليون دولار الى 17 مليون دولار فقط. بل أصرّت الحكومة على تقليص ميزانية الجامعة عام 2021 حيث تم اقتطاع 10.33مليار ليرة أي 2.7 % من الميزانية.

وينسحب العجز في الميزانية على تهديد القدرة التشغيلية للمراكز والمختبرات الطبية ومراكز وفروع الجامعة– التي يقارب عددها ال 50 – لا سيما تلك التابعة لكليات الاختصاصات العلمية الصحة والهندسة وغيرها والتي تدخل ضمن الإطار التطبيقي الالزامي في المناهج حيث أنها تعاني من نقص في صيانة الأجهزة التي تكون تكلفتها بالدولار حسب سعر صرف السوق، ونقص في تأمين مادة المازوت، وكذلك النقص في ساعات التغذية بالتيار الكهربائي.. وغيرها.

ويشار الى أن الجامعة بهذه الميزانية كانت تعاني أساساً منذ عدة سنوات من العجز والمديونية للمصارف لكن الرئيس السابق فؤاد أيوب، ومنذ تسلّمه منصبه، وضع ضمن أولويات جدول أعماله سد العجز المتراكم خلال السنوات، وقد أقدم بالفعل على هذه الخطوات، الا أنها كانت على حساب الأساتذة المتعاقدين والاحتياجات الضرورية للطلاب والاساتذة!

ثانياً، هضم حقوق الأساتذة المتعاقدين

يشعر الأستاذ المتعاقد في الجامعة اللبنانية اليوم بالغبن وبانه عامل "بالسخرة"، وهو الذي أمضى سني حياته في التعلم بأهم جامعات لبنان والعالم، فهو لا يتقاضى راتباً شهرياً! بل مرة واحدة كل سنتين، وبمبالغ زهيدة جداً لا تشكّل سوى ربع (واحد على أربعة) من رواتب الأساتذة المتفرغين والملاك، ولا تتجاوز قيمتها بحسب انهيار العملة الوطنية اليوم الـ 50 دولاراً في أفضل الحالات، وقد ذهب التعرّض الى حقوق الأساتذة المتعاقدين حدّ المس بكرامتهم لتحصيل أجورهم بحسب "عقود المصالحة"  الظالمة كما يصفها الأساتذة، والتي شرّعها وزير المالية الأسبق فؤاد السنيورة في حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وبطريقة تثير الكثير من علامات الاستفهام عن أساسها القانوني، وانها عقود غير عادلة، فهي تطالب الأستاذ المتعاقد بكامل الواجبات تماماً مثل الأستاذ المتفرّغ والملاك فيما لا تقابله بنفس الحقوق! فيحرم من كافة التقديمات والامتيازات كالمنح التعليمية، صندوق التعاضد، بدل النقل، القروض المصرفية...والاهم أن الأستاذ المتعاقد لا يشعر بالأمان الوظيفي، حيث يمكن التخلي عنه وعدم تمديد عقده السنوي في أي لحظة، ودون أي مسوّغ قانوني او منطقي.

وقد تعطّلت هذه الحقوق وإقرارها تحت عنوان ملف التفرّغ بسبب المحاصصات القائمة في البلد على المبدأ اللبناني "6 و6 مكرّر" رغم أن المناصفة يقتصر اعتمادها لدى موظفي الدولة من الفئة الأولى فقط – التي لا يندرج الأستاذ ضمنها – حسب القانون. وذلك ما أدى الى وصول نسبة الأساتذة المتعاقدين في الجامعة الى أكثر من 70% أي حوالي 3500 من مجمل عدد الأساتذة، مقابل ما يقارب الـ 1600 أستاذ متفرغ وملاك فقط، فيما ينصّ قانون الجامعة في بنوده على ان تكون نسبة المتفرغين والملاك في الجامعة 80% من أصل الكادر التعليمي! هذا الامر أدى الى إعلان الأساتذة المتعاقدين الاضراب المفتوح والذي يستمر حتى الساعة لنيل التفرغ وإقرار الحكومة اللبنانية لملفهم. فيما وزير التربية عباس الحلبي الذي وصله الملف وعد بتسليمه لأمانة مجلس الوزراء الأسبوع القادم، وقد تسلمه من رئيس الجامعة البروفسور بسام بدران.

هل الجامعة اللبنانية مستهدفة!

استهداف هذا الصرح التعليمي وأساتذته لا يبدو انه عفوي، بل مقصود- كما يقول الأساتذة- وان الحكومات المتعاقبة تعمّدت إضعاف الجامعة، وهي على سبيل المثال لا الحصر لم تدرج أساتذتها ضمن سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت عام 2017، فيما منحت هذه الزيادة لكافة مؤسسات القطاع العام دون استثناء، كما ان الحكومة الحالية لم تراع في جلسات مناقشة الموازنة العامة للعام 2022 زيادة النفقات للجامعة أو مناقشة ميزانيتها على الرغم من كل الظروف الاقتصادية والشلل الذي يصيب عدداً كبيراً من مختبراتها ومراكزها العلمية والازمة التي تعصف بها، وقد بدأت ترتد سلباً على المستوى العلمي ل 86 الف طالب! والى تسرب الأساتذة والطلاب الى الجامعات الخاصة، أو الهجرة الى الخارج، او التوقف عن التعليم، حيث أفاد تقرير لليونيسف ان "3 من كل 10 شبان وشابات لبنانيات انقطع عن التعليم كليا".

نهب موارد الجامعة اللبنانية: يفاقم الأزمة!

قدّمت كلية الصحة بحسب اتفاق بين وزارة الصحة والجامعة اللبنانية والمديرية العامة للطيران كادراً من الأطباء والطلاب لإجراء فحوصات الـ PCR مع انتشار جائحة "كورونا" عالمياً، وتقوم بتحليل نتيجة الفحوصات في مختبرات الجامعة، وقد نجحت الكلية في جمع مبلغ بعشرات ملايين الدولارات على ان يصب في خزينة الجامعة - بالدولار النقدي (الفريش)، وكانت تكلفة الفحص البالغة 50$ تقتطع من قيمة التذكرة التي كان يسددها المسافر بواسطة شيكات بالدولار أو عبر بطاقات الائتمان، على أن تحتسب وفق سعر الصرف المعتمد في تعميم مصرف لبنان رقم 154، أي احتساب الدولار على سعر 3900 ليرة لبنانية، ليعدّل بعدها الى 8 آلاف ليرة، الا أن شركات الطيران المعتمدة في مطار بيروت الدولي، توقفت في شهر تموز الماضي عن تقاضي قيمة تذاكر السفر بواسطة الشيكات أو بطاقات الائتمان، وبدأت استيفاؤها نقداً، لكنها بقيت تسدد قيمة الفحوصات للجامعة اللبنانية، على أساس تعميم مصرف لبنان وليس بالدولار النقدي، فيما يقضي الاتفاق بتحويل الأموال إلى حساب محتسب «اللبنانية» في مصرف لبنان بمعدل 45 دولاراً عن كل فحص، على ان تحوّل الدولارات الخمسة المتبقية إلى حساب وزارة الصحة. لكن عدم التزام الشركات بهذا الاتفاق أدى الى فقدان الجامعة نحو 50 مليون دولاراً! وقالت رئاسة الجامعة في بيان بان هذه الأموال هي حق للجامعة واساتذتها وطلابها وموظفيها، ما استدعى تقديمها شكوى قضائية لاسترجاع هذه الأموال المستحقة منذ 1 تموز 2021.  

إنجازات الجامعة يقوّضها إهمال الدولة

على الرغم من كلّ المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الجامعة اللبنانية إلا أنها على صعيد المستوى التعليمي تصنّف في المرتبة الثالثة بين الجامعات كافة في لبنان بحسب موقع Ranking web of universities  في شهر كانون الثاني للعام 2022، ويحصل المتخرّجون منها على دروع تكريمية وجوائز عالمية، ففي عام 2021  فازت الجامعة اللبنانية بميداليّتين ذهبيّتين وميدالية برونزية في معرض بيروت الدولي للابتكار (BIIS-2021) الذي نظمته الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث عبر الإنترنت بالتعاون مع الاتحاد الدولي لجمعيات المخترعين (IFIA) وعدد من الشركاء المحليين والدوليين، وفي العام 2018 نال الدكتور حبيب البدوي، أستاذ التاريخ الحديث عن دراسات يابانية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية "جائزة التفوّق العلمي في العالم العربي" عن فئة "الشخصية الأكاديمية لعام 2018"، وقد رشّحت السفارة اليابانية الدكتور حبيب للجائزة المنظمة عبر "المركز الثقافي الآسيوي"، وغيرها الكثير من الإنجازات التي لا يمكن حصرها، فهل تتحمّل الدولة اللبنانية وحكوماتها مسؤوليتها لإنقاذ الجامعة اللبنانية وأساتذتها - نخب المجتمع اللبناني - والاستثمار في عقولهم ودورهم الفعّال لإيجاد نهضة علمية اقتصادية تنموية مستدامة؟ 


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور